أذكر ــ يا دام عزكم ــ أنني كنت أراجع موضوعاً في التربية الوطنية للصف السابع عن التنوع السكاني بين البادية والريف والمدينة. لمع في ذهني سؤال ليست له علاقة بالمنهاج، قلت: ما في أحد يمكن أن يجيبني عليه إلّا سيدي حمد.
سيدي حمد ــ أيّها السادة الكرام ــ في ذلك الحين شيخً في السبعينيات. هادئ الطبع، أبيض الوجه تشوبه حمرة، يكاد النور يشع منه، تكسوه لحية بيضاء جميلة متوسطة الطول، يرتّبها بعناية كلّ صباح، قليل الكلام دائم النظر إلى الأرض كأنه يبحث عن شيء فقده. يهابه كلّ أفراد العائلة إلّا أحفاده، فهو معهم أرقّ من نسيم الصبا، وحديثهم ينزل على روحه برداً وسلاماً كما تنزل قطرات المطر على الأرض الصادية.
اعتاد ــ رحمه الله ــ الخروج إلى ساحة البيت ساعة الضحى، وجلوس القرفصاء على قدميه مسنداً ظهره للجدار مستقبلاً شمس الربيع الدافئة، أو في الظل إن كان والحر شديداً ساعة أو ساعتين قبل أن يعود ويلقي ببقايا عظامه المتهالكة على الفراش. كان أكثر ما يحرص عليه وما كان يفارقه أبداً: علبة الدخان العربي الفضية المزخرفة كزخرفة شبريته التي كثيراً ما تأملتها على وسطه وأعجبت بها، كانت العلبة دائماً مليئة بلفائف الدخان المفروم باليد بعناية فائقة، ثم قداحة (ولاعة قديمة) وكيساً احتياطياً من الدخان في جيبه، يلف لفافات ويملأ بها العلبة كلّما أحسّ بقرب فراغها. جلست أمامه بأدب وقلت: سيدي بدي أسألك هالسؤال، قال: هه أي (قل أسمع ). ردت الوالدة من الداخل لا تسمع له يا عمي أحسن يصدع لك راسك، ابني وأنا عارفته، أسئلة كثيرة وغلبته أكثر. نظر إليَّ مبتسماً وهز رأسه كأنه يشجعني على القول قلت: يوجد يا سيدي في بلدنا عائلة اسمها عائلة اليمني، هز رأسه بالإيجاب، قلت وبلدتنا على ما أسمع منكم تنقسم إلى مصري وفلاح، قال: صحيح، قلت: في نابلس عائلة المصري أيضاً وهي إحدى أشهر عائلاتها، وفي القدس حارة خاصّةً بالمغاربة، قال: نعم. والشيخ عز الدين القسام سوري كان خطيب وإمام مسجد حيفا الكبير، وصاحب ثورتها المجيدة عام 1936، وقد كنتُ أحد رجالها، فهمت يا بني ما تريد قوله. تململ جدي حتى استقر على الأرض وتربع، وفتح علبة الدخان وأخرج منها لفافة، أشعلها وسحب نفساً عميقاً ثم أخرجه، وكانه بخرج معه هموماً أثقلت صدره عقوداً طويلة، ثم أنشأ يقول وعمر القارئين يطول:
اه يا ولدي لقد فتحت جراحاً كنت أحاول أن اكتّمها ولمّا تبرأ بعد. اعلم يا بني أن فلسطين مهوى أفئدة المسلمين جميعاً، ومحط رحال الكثير منهم على مر العصور، وهي أرض مباركة لا يجوع فيها أحد، خصبة الأرض عذبة الماء، نقية الهواء ندية السماء، وهي فوق ذلك وقفٌ إسلامي، وليست لأهلها فقط بل كلّ مسلم له الحق أن يعيش فيها.
في عهد الخلافة العثمانية وأنا عاصرت شطراً منها، كنت أيامها يافعاً، لم تكن هناك حدود بين البلدان الإسلامية، من المغرب العربي وحتى حدود الصين، ومن بحر العرب وحتى جنوب روسيا ودول البلقان ( يوغوسلافيا)، كانت كلها تحت مظلة دولة الخلافة العثمانية. وطبيعي أن يتنقل أفراد هذه المجتمعات سعياً وراء التجارة أو لقمة العيش ثم الاستقرار في المكان الذي يطيب لهم، وحتى يميزهم أهل البلاد ينسبونهم إلى البلد الذي قدموا منه فيقولون: (فلان الشامي وعلان المصري أو اليمني أو المغربي... الخ). قلت ولكن يا جدي كيف سقطت دولة بهذا الحجم؟!
صمت وطاطا راسه قليلاً ثم قال: يا بني هي دولة تآمر عليها أهلها مع أعدائها فأسقطوها. وعندما تكبر يا بني أوصيك ألّا تأخذ الحقيقة من بطون الكتب، ولكن من أفواه الناس الذين عاصروها؛ فإن مَن تآمر يسهل عليه تزوير التاريخ. يكفي يا بني أن أقول لك: إن بريطانيا عرضت على الخليفة عبد الحميد الثاني آخر السلاطين العثمانيين تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، مقابل سداد ديون الدولة العثمانية، وإخماد ثورات البلقان التي كانت بريطانيا وراء إشتعالها، ولكنه رفض وقال: (إني لا أستطيع أن أتخلَّى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست مِلْك يميني، بل مِلْك الأمّة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها، وروتها بدمائها، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. أما وأنا حيٌّ فإنّ عمل المِبْضَع في بدني لأهون علىّ من أن أرى فلسطين قد بُتِرت من الدولة الإسلامية ). فسلّطو عليه عملاءهم فأقصوه عن العرش عام 1908 وكان ذلك بداية نهاية دولة الخلافة التي سقطت فعلياً سنة 1922حيث قُسّم عند ذلك الوطن العربي باتفاقيات سايكس بيكو (طيبة الذكر) إلى الدول التي تراها اليوم، واحتل اليهود فلسطين، وشرّدوا أهلها كما توقع عبد الحميد رحمه الله.
كبرت أنا بعد ذلك فقرأت التاريخ، وسمعت الأحداث من معاصريها، فكان ما سمعته مخالفاً تماماً لما قرأته، تُرى برأيكم مَن أصدق: التاريخ المكتوب أم أقوال الناس المعاصرين؟ طابت أوقاتكم.
شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة