مسرحية شهيرة ــ يا دام فضلكم ــ للسيدة فيروز اسمها ( يعيش ) , لا أظن أحدا من شبابنا قد سمع بها , فشباب اليوم لهم فنّهم وطبلهم وزمرهم , أنصح من لم يسمعها ومن لم يسمع بها أو يشاهدها أن يتبعها بعين الفكر وأذنه , فهي موجودة على اليوتيوب , ومشاهدها هادفة تحتاج لوقفات وتمعن وإسقاطات على واقعنا الجميل .
المسرحية باختصار تتحدث عن إمبراطورية ما, في زمن ما , على أرض ما. الإمبراطور فيها حاكم فرد , يقبع في قصر عاجي , لا يعلم عن رعيته إلا بمقدار ما أعلم أنا عن سكان جزر (واق الواق )في المحط الأطلنطي كما يزعمون في الأساطير , أو نهائي الدوري الإسباني لكرة القدم . هذا الإمبراطور يطلِق أيدي زبانيته يسيرون دفة البلاد كيفما شاءوا, بينما يغرق هو في ملذاته وشهواته , حيث أمعنوا في الرعية بطشا وترويعا , وإذلالا و تركيعا , و تعرية وتجويعا, وتدويرا وتربيعا .
حصل انقلاب على الإمبراطور من زمرة أكثر منه فسادا وإفسادا , طامعة في السلطة , فغيرت كل شيء تغييرا شكليا ؛ يعني غيرت شوارب رجال العهد الجديد فأصبحت لتحت , بينما كانت شوارب ( زُلم) رجال العهد البائد لفوق . ثم استأجرت متعهدي مظاهرات ليطبلوا ويزمروا للانقلابيين , ليوهموا الناس أن كل الشعب يؤيد الانقلاب , وسُلِّمت الصحافة والاعلام لفئة جاهلة فاسدة , أصبحت أبواق دعاية وشراء للذمم , ومطاردة رجالات العهد البائد , وإقناع الشعب أن ثورتهم صحيحة ومؤيدة .
نعود ـــ يا سادة يا كرام ــ إلى الإمبراطور المسكين الذي تخلى عنه رجاله بما فيهم زوجته الإمبراطورة , وهربوا بأموالهم للخارج , ليبقى وحيدا , فيضطر إلى الهروب والاختباء متخفيا عند رجل طيب في بلدة على الحدود , مليئة بالمهربين وقطاع الطرق , يوهمه بأنه هارب من حكم عليه بسبب ضربه زوجته وحماته , فصدقه المسكين وآواه في بيته , فعرفه أهل القرية باسم (برهوم), وتتعاطفوا معه فعاش بينهم فترة كأنه واحد منهم . ثم يتحالف مع المهربين وقطاع الطرق , فيقومون بحركة انقلابية , ليعود مرة أخرى إلى سدة الحكم على قمة السلطة , ولا ينسى أن يغير شوارب العهد الجديد جدا آخر طبعة إلى الوسط ؛ لا لفوق ولا لتحت , ثم يمارس ما مارسه السابقون من بطش وترويع , ويدور الدولاب , ويبدا أولا بمن أحسنوا اليه وأخفوه قائلا : ( من بخيفي برهوم يخفي غير برهوم ) . لتختم بالمشهد الاخير بأغنية تقول فيها :
طلع المنادي ينادي, ما فيهاش إفادة (فائدة)
القطعان في واد والرعيان في واد .
هذا ــ يا دام عزكم ــ ملخص المسرحية , وما أشبه اليوم بالبارحة في ديار بني عرب , حيث الحكومات في واد والشعوب في واد آخر . الشعوب تبحث عن لقمة عيش شريفة مغموسة بقليل من كرامة , بينما الحكومات تصر على أن تسلبهم كل شيء حتى هذه الكرامة . والمشكلة التي تعاني منها الحكومات ـــ كان الله في عونها ـــ أن الشعوب لا تتنازل عن كرامتها ؛ فهي قد خسرت كل شيء لكنها لا تتنازل عن الكرامة , ولوكان ذلك على حساب دمها وحريتها وقوت عيالها .
من الإسقاطات التي عجبتني عندما انتقدت فيروز العهد البائد المتمثل في برهون والعهد الحالي قال لها : لو خيروك أنت تختارين من ليحكم البلاد ؟ قالت على الفور : اختار جدي . سألها : لِم ؟ قالت : جدي عاش هموم الناس واكتوي بنيرانها , جدي يعلم عندما يضرب الثلج شجر اللوز كيف يبكي أصحاب اللوز , أنتم قرأتم في الكتب فبقيت نظرياتكم وأفكاركم في الكتب . أنا قرأت عن الذئب فبقي الذئب صورة في ذهني , لكن عندما هجم الذئب على مواشي القرية وشق بطونها عرفت ما معنى الذئب .
أقول لتجار الوطن وسماسرته :أنتم يا من تكرشون الكروش وتقرشون القروش , وتنفقون الأموال للبقاء على العروش , وترفعون الشعارات , وتفرضون الإتاوات , وتتحاكمون إلى الطاغوت , تسرقون أموال الناس وتأكلونها بالباطل , وتدلون بها لمن يمنحكم المناصب الرفيعة, والدرجات العليا , فتمتد أيديكم على ثروات الوطن هبشا ونبشا , أقول لكم : نحن أبناء الوطن نسكن فيه ويسكن فينا , نعشق كل حبة رمل على أرضه نقبّلها ونضعها فوق رؤوسنا , نذوب في كل قطرة ماء تروي عطش ترابه , ندافع عنها ونفديها بأرواحنا .
الوطن لنا , كله لنا لا نفرق بين شرقيه وغربيه ولا بين شماله وجنوبه , لا نفرق بين حبة رمل في البصرة واختها طنجة , شاء من شاء وأبى من أبى . نحن المدافعون عن ترابه إذا جدّ الجِدّ , نحن الباقون على أرضه , وما أنتم إلا زبد البحر أو فقاعات ماء لا بد أن تزول , أنتم بمجرد هزة بسيطة سترحّلون أبناءكم تسبقهم أموالكم إلى الخارج ثم تلحقون بهم . والحق لا بد أن يُحق وإن طال الزمن
أيها المبطلون : لماذا تجعلون حياتنا ضنكا نكِدة , فيتسلل الياس إلى قلوبنا شيئا فشيئا , ليُجبَر الشباب على الرحيل والبحث عن فرصة عمل في ديار غربة , بعيدا عن سياطكم الطويلة , لمصلحة من تسلب كرامة المواطن عند مقابلة مسؤول في دائرة لإتمام معاملة ؟ هل سمعتم عن رجل قتل أفراد أسرته للتخلص من طلباتهم ثم قتل نفسه بعدهم ؟ هل سمعتم أو ما سمعتم عن أناس يرتادون الحاويات في ساعات متأخرة من الليل بحثا عن بقايا طعام شبعت عنه كلابكم ؟ هل سمعتم عن متعهدي مكبات النفايات الذين يجمعون مخلفات المطاعم والفنادق ليبيعوها للبؤساء والمساكين ؟ انزلوا من أبراجكم وقصوركم وتخلو عن حرّاسكم , انزلوا إلى الأسواق الشعبية ولا تتأففوا , وراقبوا ما يدور فيها لتعلموا حجم الجرم الذي اقترفتموه بحق كل بائس معترّ يعيش على أرض الوطن .طابت أوقاتكم .
شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة