_ راح كلُّ راكب يجمع حاجياته بسرعة , فالرياح نشطَتْ , واغبرَّ الأفقُ , وراحت الغيو مُ تتراكض , ويدفع بعضُها بعضًا , عابسةً متوعّدة .. واستسلمت الطبيعةُ لعاصفٍ طارئٍ
من البرد , استجابت له الأجسادُ والوجوه والأطراف ُ..
_ وينادي االحاج محمد الشيخ : "يا الله ياركّاب ,لننطلقْ قبل أن تدهمَنا العاصفةُ فمشوارُنا طويل ". وفي الطريق إلى عرسال , وعلى مدى السهل الذي تجتازه الحافلة , ربضتْ القرى هادئةً , والثلوجُ تتساقطُ عليها كأنْ لم تتساقطْ من قبلُ !. لقد غيّبت معالمَها شيئا فشيئا , واختفى من حولنا صورُ الجبال والهضاب , ولم يبقَ سوى الطريق حيث راحت الناقلة تسير على حذَرٍ , وفيها الركابُ يتندّرون ويتساءلون , والثلوجُ تتراكم بسرعة ,والريح يعلو صفيرُها , والفضاء من حول الجميع قد سُدّتْ أبوابُه بمغاليقَ تبعث على الخوف
... والمشوارُ طويلٌ ..
_ وباتجاه البلدة راحت السيارة تصعّدُ ملتفّةً حول محاذير الطبيعة , غير آبهةٍ إلّا بعنادها وتصميم سائقِها , وهي تدوس بجدارةٍ ما تراكم في طريقها , وتصعّد على المنعطفات وتصعّد إلى ... وليتدبرْ كلُّ راكبٍ أمرَه , فالسيارة عاندتْ ! وكوع وادي المطلب قاسٍ .. وكفى !!
_ كنت آنذاك في التاسعةَ عشرةَ , عائدا ًمن زحلةَ حيث كنت أتعلّمُ , وكعادتي في كلِّ يوم جمعة , كنت أزور أهلي ليومين متتاليين , على أن أعودَ صباح يوم الاثنين التالي .
وحصل أن تركتُ ما كنتُ أحملُ , وترجّلتُ من السيارة كما فعل الآخرون ..
_ واتجهنا .. كلٌّ بدأ معركتَه منفردًا , قائمًا على همّته واستعداده , والمسافة طويلةٌ طويلة ! والحواجز كثيرةٌ كثيرة ! . الريح زوابعُ , والأبصارُ غاشيةٌ , والطريق خافيةٌ , والصقيع يجمّد فيك العروقَ ويكادُ يُنسيك أنّك على قيد الحياة ! ولولا أنك, على مدى السنوات
الماضية ,لم تأنسْ لهذي الطريق وتتعرفْ على منعطفاتها والمغاور المحيطة بها , لتاهتْ بك الاقدامُ , أو لشعرْتَ أنك في عالمٍ من الأشباح والعفاريت !! ..
_ وتمشي وتمشي , وأمرُك بيد الغَيب ؛ وقد يبستْ مفاصلُك وأطرافُك , وتجمّدَ فوق عينيك وتحت أنفك ما تهدَّل من نفانفَ ,ولا تعودُ أصابعُك تقوى حتى على إزالتها !!
وتحمد الله أنك وصلتَ وحدَك إلى ظهر "رأس السّرج " وخلفَك رجلٌ واحدٌ ساعدتْه
صلابتُه على الوصول أيضا ..
ولكنْ ؛ ما أنت فاعلٌ ؟ والريح لا تني تقذفُ بك يمينًا ويسارًا ,وتكاد ترميك إلى جانب الطريق ؟ وهي وهدةٌ عميقةٌ مخيفةُ أيام السّلم ؛ فكيف بها في هذه الحرب الطاحنة ؟
وأتركُ البقيةَ لكم في أن تخمِّنوا كيف وصلتُ؟؟ مع اعتذاري لأنني أكثرت عليكم ..
شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة