القصة القصيرة
للعدالة وجوه أخرى
عاشت زوجة لرجل أرزقي (كلمة مصرية تعني رجل رزقه يوم بيوم) وأنجبت أربعة من البنات ، ومات عنها زوجها فكانت تعمل بالبيوت خادمة وتأتي آخر النهار بالطعام للبنات الأربعة ، ولما كبرت البنت الأكبر قليلاً كانت تصتحبها معها في البيوت ، لتساعدها في العمل وتأكل من خير هذا البيت ، وكبرت البنت وظهرت علامات الأنوثة بسرعة عليها ، هنا أصبح الأمر شاق أكثر عليها في تربية البنت مع توفير الطعام والرزق لها ولأخواتها ، ولكن القدر كان رحيماً بها فتقدم للزواج بالبنت صاحب ورشة ميكانيكا في الحارة التي تسكن بها وهو رجل "كسيب" (كلمة مصرية تعني أنه يكسب كثيراً) ، فرحت الأم وزوجَتها وهي لم تتعدى الخامسة عشر من العمر ، وقالت لنفسها حِملْ وتخلصتْ منه ، ولكن الصعب أمامها كان كيف ستجهزها ، إلا أن المحيطين بها أرشدوها إلى تاجر طيب يوفر لها ما تحتاجه العروس من جهاز وبالتقسيط المُريح ، فأخذت منه حاجات العروس المتواضة وكان إجمالي المبلغ الف جنيهاً مصرياً ، وكانت الكمبيالات التي وقعت عليها تلزمها بتسديد ستون جنيهاً شهرياً إلى جانب كمبيالة مجمعة بمبلغ الف جنية لضمان حقه تسلم لها مع آخر كمبيالة ، وكان هذا هو العرف المتبع في مثل هذه الحالات ، وتزوجت البنت وظلت الأم تدفع كل شهر مبلغ الكمبيالة ، وكلما سددت واحدة كانت تقبلها وتقول الحمد لله ربنا يعين على الباقي ، وأستمرت على هذا الحال حتى وقعت مرة في إحدى البيوت التي تخدم بها وهي تمسح الأرض فكُسرت قدمها ، وقام صاحب البيت بأخذها للمستشفى لعلاجها فكان عليها أن تظل ببيتها والقدم في الجبس خمسة وأربعون يوماً ، حمدت الله على ما حدث ، ولكن كيف ستسدد ما عليها والكمبيالة القادمة بعد يومين وكل ما أخذته من صاحب الشقة بعد أن أعادها إلى بيتها من المستشفى عشرون جنيها ، مما أدى إلى إنقطاعها عن السداد ، وكان للتاجر إبنه وحيدة أدخلها كلية الحقوق وتخرجت محامية ، وبعد أن تدربت في مكتب أحد المحامين قام الأب بفتح مكتب خاص لها ، وظلت بلا قضايا حتى أعطاها الأب كمبيالات متأخر سدادها خاصة بتلك السيدة التي تأخرت في السداد ، وقال الأب إن المبلغ المستحق لي هو خمسة الف جنية حسب الكمبيالة المجمعة ، وأجتهدت البنت في أول قضية تسند إليها وشعرت بأن هذه القضية هي بداية سلم النجاح ، ورفعت دعوة وتم القبض على السيدة الموقعة على الكمبيالات ، وعرضت على النيابة العامة التي قررت إخلاء سبيلها بكفالة حتى تدبر المبلغ المطلوب ، ولكنها لم تكن تملك مبلغ الكفالة ، مما جعلها تقدم للمحكمة وهي محبوسة ، وفي أول جلسة في المحكمة التي يرأسها قاضياً عُرف عنه العدل والإحسان بين القضاه زملائه وكذلك المحامين ، حتى أنه كان لا يدخل إي من النساء قفص الإتهام بل يجلسهن في الصف الأول مما جعل الجميع يشهد بأنه قاضياً وإنساناً بحق ، ولما أُدخلت هذه السيدة إلى قاعة المحكمة كان يبدو البؤس عليها سألها القاضي ، ما أمر هذه الكمبيالة وهل هذا توقيعك ، قالت هو توقيعي وقصت عليه القصة كما ذُكرت هنا ، فقال لها متى ستسددي له الألف جنية وأنتِ حتى لا تملكي مبلغ الكفالة ، ذكرت له حالها الذي كان لا يحتاج لوصف ثم قالت للقاضي الدين الذي كان عليَ كله الف جنية سددت منهم ٥ كمبيالات فالباقي أقل من ألف جنية ، سأل القاضي المحامية إبنة التاجر التي قالت له أنا لا أعرف عن هذا المبلغ شيئاً ، إلا أنه حسب الإيصال الإجمالي المكتوب الف جنية ، ثم قالت السيدة الموقعة على الكمبيالة للقاضي لما شعرت أن الإدانه حتماً ستقع عليها ، سيدي القاضي إفعل بي ما تشاء ولكن أستحلفك بالله أن تحافظ وترعى أنتَ بناتي ، قال القاضي والدموع تكاد تنطلق من عينيه الحكم بعد المداولة ، وقبل أن يدخل غرفة المداولة أخرج منديلاً من جيبه وأخرج كل ما معه من مال وقال " السادة المحامين حراس العدالة هذه الثلاثمائة جنيهاً هي كل ما أملك الأن أضعه هنا وفاءً لدين هذه المرأة الفقيرة ، ولا أعرف من سيساهم معي لرفع الدين عن هذه المرأة " ودخل غرفة المداولة ، ثم خرجت المحامية وأتصلت وسألت أبيها عن حقيقة الدين وأخبرته بما فعل القاضي ، فقال لها باقي الدين فقط ثلاثة مائة جنيهاً لا تأخذي أكثر من هذا المبلغ ، ثم تجمع المحامين في غرفة المداولة ومعهم منديل القاضي وقد جمع فيه خمسة آلاف من الجنيهات ، إبتسم القاضي وحمد الله بدموعه وقال للمحامية خذي الأف جنيها وتنازلي على القضية ، حتى أطلق صراح هذه المرأة لتذهب إلى بناتها أعانها الله عليهن ، فإذا بالمحامية تقول للقاضي أن أبي أخبرني الأن أن الدين الذي له هو فقط ثلاثمائة جنيهاً ، فشكرها القاضي وطلب منها أن تبلغ شكره لأبيها ، وطلب منها أخذ مبلغها من المال الموجود بالمنديل ، أخذت المبلغ وشكرت القاضي الإنسان ، وقال القاضي للسيدة خذي باقي الخمسة آلاف لتُنفقي بهم على بناتك ولعلك تشتري وتبيعي بهذا المبلغ الذي سيكون رأسمال لتجارة بسيطة ، حتى توفر لكِ دخل يكفيكِ وأنصرفي لبناتك ، فإذا بقاعة المداولة تنطلق بالتصفيق وتعلو كلمات المحامين الله أكبر يحيا العدل ، حتى إهتزت قاعة المحكمة مما دفع المحامية ممثلة أبيها صاحب الدعوة إلى تقديم حق أبيها الثلاثمائة جنيها ، وقالت للقاضي وأنا أقدم هذا المبلغ لها ، وسوف أسدده لأبي من جيبي الخاص ، وقالت للسيدة إذا تفضل الله عليَ بالرزق فكل قضية تدخل مكتبي لكِ ولبناتك الربع من الدخل حتى يعينك الله عليهن ، فصفق لها القاضي والمحامين ، وكل منهم قال لزميلتهم سوف نقدم لكِ القضايا التي تزيد عندنا ، فسبحان اللطيف بعباده الذي يقدر الأمر بفضله وكماله .
ا.د/ محمد موسى
شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة