عدتُ بذاكرتي إلى أيامٍ قد خَلت ، وعشتُ هذه الأيام ثانيةً وكأنها حلم من الأحلام ، فأٌمي تأخذ بيدي للذهاب في أول يوم إلى المدرسة القريبة من المنزل ، فقد كبرت وبلغت الرابعة إلا شهور خمسة ودخلت في ( Kg ) الروضة ، وكنتُ سعيداً حيث أنني أرتدي بنطلوناً طويلاً لأول مرة في حياتي وهو زي المدرسة الموحد ، ومعلق علي صدري كارت مكتوب عليه كل البيانات أي إسمي والمدرسة وعنواني ، كما وزعتها إدارة المدرسة على كل التلاميذ ، وعندما وصلنا إلىِ باب المدرسة ، دخلت أمي معي فهذا هو اليوم الأول لي في هذا المكان الجديد ، وسوف أُترك وحدي لمواجهة ما لم أعتاد عليه وبعيداً عن أمي التي لم أفارقها من قبل ، وتعجبت مما أراه في المدرسة ، فأمي كانت قد أبلغتني أن أجمل مكان في الدنيا بعد حضن الأم هو المدرسة ، التي سوف تجعلني رجلاً يتعلم ما يعرفه الكبار ، وفعلاً وجدت المدرسة مكاناً متسعاً ونظيفاً وبه الكثير من الألوان ، إلا أنني رأيت أطفالاً يبكون بصوت وآخرون يبكون بلا صوت ، وكان السؤال الذي حيرني لماذا هؤلاء يبكون ، ظلت أمي بجانبي بعض الوقت حتى بُدأ في تنظيم الصفوف ، إبتعدت أمي قليلاً وهي تنظر إلىَ وتبتسم ، وظلت هكذا تبعد وهي تبتسم لي لكي أشعر بالأمان ، حتى وصلت إلى باب المدرسة ، ورفعت يدها لوداعي والإبتسامه تشرق في وجهها ، وأختفت عندما همت صفوف التلاميذ بالصعود إلى الفصول ، ومازال البعض يبكي والمدرسيين يحاولوا تهدئتهم ، وسمعت بعض الأولاد وهم يصيحون ماما ماما ، ثم دخلتُ إلى الفصل مكاني الجديد ، وهو عبارة عن سبورة خضراء جميلة ظللتُ أتطلع اليها بإبتسامه ، وترابيزات مستديرة ملونه بألوان جميلة ، وحول كل واحدة منها عدد أربعة مقاعد ملونه بلون التربيزة وصغيرة كأحجام هؤلاء الصغار ، وجلست في أحدهم وجلس معي ثلاثة أطفال إشتركنا نحن الأربعة في شيء واحد ، وهو أننا لم نبكي كالأخرين ، وقامت مدرسة الفصل بقراءة الأسماء ، وقالت كل مجموعة جالسة الأن سيظل هذا مكانها إلى نهاية العام ، ثم تم توزيع على الجميع أقلاماً ملونه وأوراقاً ليرسم كلٌ من التلاميذ ما يريد ، ووجدت زملائي الثلاثة مثلي تقريباً ، ومرت الأيام وأنا أشعر بالمتعة لإكتشافي هذا العالم الجديد عني ، وفي بداية الأسبوع الثاني وبينما أمي توصلني إلى باب المدرسة كعادة كل يوم ، فإذا زميلي في التربيزة ومعه أمه توصله أيضاً ، فقلت لأمي هذا يجلس معي على نفس التربيزة ، فتقدمت أمي إلى أم زميلي للتعرف عليها ، وكان الزميل هذا يسمى منير ، وبينما أمي وأم زميلي منير يتبادلان معاً التليفونات ، إلا وحضر الزميلان الأخران مع أمهاتهما تعرفت أمي عليهما وعلى أم كل منهما ، وكان إسمهُما أحمد وعادل وتبادلت الأمهات التليفونات معاً ليتواصلن ، وحتى هذا الوقت لم أكن أعرف الفرق بين الأفراد إلا فرقاً واحداً ، وهو هذا ولد وهذه بنت فقط ، حتى وجود الأبيض والأسمر والأسود لم يكن يمثل فرقاً عندي ، ثم حدثت لي مفاجئه ، عندما رأيت أمي تهنئ أم عادل ومنير بالعيد ، فتعجب كيف هو عيد ولم تأتي لي أمي بالجديد من الثياب كعادتها كل عيد ، فعرفت أن هناك أطفالاً لهم ملة وأعياد أخرى يسمون مسيحين ، هنا دخل في قاموس معرفتي فرقاً آخر بين الناس ، غير بنت وولد ، وأن الولد قد يكون مسلماً مثلي ، وقد يكون مسيحياً مثل عادل ومنير ، وكذلك البنت فتوجد بنت مسلمه وبنت مسيحية ، وكنت دائماً كثير الأسئلة لأمي ، فعرفت منها أن المسلم يذهب إلى الجامع ليصلي لرب واحد وكتابه هو القرآن الكريم ، وكذلك المسيحي يذهب إلى الكنيسة ليصلي لذات الرب الواحد وكتابه الإنجيل المقدس ، وأعلمتني أمي أن المسلمين لهم نبي هو خاتم الأنبياء إسمه محمداً ﷺ ، وأن المسيحين لهم نبي كريم هو المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام) ، والنبي محمد ﷺ والنبي عيسى عليه السلام أخوة ، والإثنان جدهما هو أبو الأنبياء إبراهيم عليهم جميعاً الصلاة والسلام ، وأكتفت أمي أن تكون المعلومه فقط هكذا حتى لا يختلط الفهم عندي ، ومن أسئلتي لأمي مثلاً لماذا يأتي عيد بعد أن نصوم شهر رمضان ، نصنع فيه الكعك ونلبس الجديد من الثياب ونسعد ، وآخر يأتي فنذبح فيه ونأكل اللحم وهذا العيد ثلاثة أيام ، والعيد الأخر أربعة أيام ، وكانت أمي شديدة الذكاء فكل كلامها عندي كان مصدقاً ، قالت لي بإبتسامتها الهادئة بعد تعب الصيام نفطر ويكون عيداً ، والناس تحج إلى الكعبه بيت الله الحرام في مكه المكرمه ، شكراً له على أفضاله ، وتفرح فيكون هذا عيد عند من حج وعند من لم يحج ، وكما أن يكون لك أخ أصغر وأنت الأكبر كذلك الأعياد هناك عيد صغير ثلاثة أيام وآخر كبير أربعة أيام ، ولما كبرت عرفت حتى أصحاب الملة الواحد ينقسمون ففي الإسلام مثلاً أكبر قسمين سنه وشيعة ، حتى داخل الشيعة هم ينقسمون ، والمسيحية منهم الأرذوكس والكاثوليك والبروتوستنت وداخلهم ينقسمون أيضاً ، فتربيت على إحترم الإختلاف بين الخلق ، فلكل مجموعة معتقد وأنا أحترمه وكذلك يجب أن أفرض إحترم معتقدي بسلوكي على الأخرين ، حتى يحترم هو معتقد الأخرين ، فالإختيار للملة متاح بلا إكراه ، ثم سيقف بعد الموت الجميع أمام الله الحق خالق كل الملل والمعتقدات ويحاسب كل هؤلاء بعدله وبفضله ، والفعل مع الأخرين هو ما يعبر عن ما عندي من صدق ملة ومعتقد ، فالملة علاقة بيني وبين الله سبحانه وتعالى ، وملتي ستنعكس على المعاملة مع الأخرين ، فأنا لي ملة وللأخرين ملتهم ، ويكفي أن يسود بين الجميع علاقات محبه وإحترام ، وعرفت أنها إرادة الله ولذلك خلقهم مختلفين ، في اللون واللسان والشكل ، وأن كل ملل الدين هي لدين واحد منذ خلق الله آدم عليه السلام وهو التوحيد ، وفجأة وبلا برهان إيمان بل بفكر مغلوطة ، خرج على الناس من يقطعون الرؤس ويهَجرون النفوس من ديارهم بلا ذنب ، إلا أنهم يعبدون الله كما يرون ، ويدعون أنهم على الحق وصحيح الدين ، وإنهم (أوصياء على دين الله) ، وكأنهم حراس العقيدة بتوكيل من الله سبحانه وتعالى ، فتسألت مرة كيف يسمح الله أن يعيش في ملكه مختلفين في ملل الدين ، ويرزقهم ويطعمهم ويسترهم ، بل وتشرق عليهم جميعاً كل يوم شمسه ويمُدَهم بهوائه، ويكونوا في ملك صاحب الملك آمنين ، ثم يأتي رعاع من البشر ويفعلوا ما لا يُرضي صاحب كل هذا الملك ما يُفعل بعبيده ، ويقولوا نحن فقط المؤمنين ، وفي الحقيقة هم من أخبر عنهم الصادق الأمين محمد ﷺ (خاتم الأنبياء والمرسلين) ، أنهم خوارج هذا العصر كلاب أهل النار ، من يقتلون أمان الآمنين لا يعرفون شيئاً عن مراد رب العالمين ، (إدعو الي سبيل ربِكَ بالحكمه والموعظة الحسنه) ، فإذا دعوت بغيرهما ، فأنت لا تدعو لسبيل ربك بل تدعو لسبيل غيرك أو لسبيل نفسك ، (ولا إكراه في الدين) ومن أكره فإكراهه مخالف للملك صاحب هذا المُلك ، لذلك أُطلق عليهم حديثاً لفظة الإرهابين ، والحقيقة هم تكفيرين لأنهم يكفرون الناس بعلمٍ مغلوطة ، فهمت هذا وأن الإسلام هكذا تسامح وسلام من صغر سني ، فأخذت أهاجم في الصحف عندما كبرت ، وحتى كلما سافرت خارج مصر وسُئلت عما يفعله البعض بإسم الإسلام ، كنت أقول هذا ليس إسلام رب العالمين بل هذا إسلام عبدة الدولار عملاء الصهانية والمستعمرين.
آخر الأخبار
جاري التحميل ...
"من مذكرات أستاذ جامعي" "التربية والتعليم في الزمن الجميل" بقلم / ا.د/ محمد موسى
عن الكاتب
قادح زناد الحروفشاهد أيضاً
التعليقات
طباعة ونشر وتوزيع ، ظهور إعلامي ، ورش أدبية
اشترك بالعدد الجديد من مجلة القلم الورقية
للتواصل والاستعلام / 0020102376153 واتساب
جميع الحقوق محفوظة
دار نشر القلم للطباعة والنشر والتوزيع

شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة