ذات يوم - 4 -
و بعد أن تم نقل الطفل إلى الغرفة الخاصة به في المستشفى، كانت الساعة عندها تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، و كانت قواي شارفت على انهيار، وقد أضطررت عندها أن أستاذن الحضور كي أغادرهم على أمل أن أعود إليهم في غد صباحا بإذن الله تعالى.
كانت المسافة التي تفصل بين مشفى الأطفال التخصصي في سيف الدولة حيث تركت الطفل و بين البيت الذي أقطنه في منطقة سليمان الحلبي ليست قريبة، لكن حلب آنذاك مدينة لا تنام، فالحركة و الضجيج و الأنوار التي تنبعث منها تكاد تجعل منها لؤلؤة مضيئة! اﻷمر الذي يجعل المرء يسير و يتحرك و يتنقل فيها بكل أريحية و من غير أن يشعر بوحشة أو سآمة أو غربة نفسية قاتلة كما هو الحال اليوم..
و كعادتي إزاء أية أزمة أمر بها تجدني و قد انغلقت على نفسي أباشر أحادثها و تحادثني..
و كنت أحمل في جعبتي بضعة محاور للنقاش
فاﻷطباء قالوا بأن حالة الطفل لا تظهر حقيقتها من قبل مرور [٢٤ساعة] و هذا يعني أنني سأبيت ليلتي على قلق و توجس و خيفة ..
و إن متجري الذي أبيع فيه أصنافا من المعجنات و الحلويات سيكون مغلقا مما سيتسبب لي بخسائر ليست قليلة خاصة و أنه لدي التزامات كثيرة و منها التزامات تجاه الجمعية السكنية التي كنت مكتتبا فيها
و لعل الأهم من ذلك كله زوجتي التي تركتها في البيت و هي في حالة إغماء و لست أعرف مالذي جرى بعدها [لم يكن في بيتي يومها هاتف أرضي و لا حتى عند أي من الجيران، كما و أن الهواتف الخليوية لم نكن قد عرفناها بعد ] ..
و ثمة محور آخر أحادث من خلاله نفسي و هو أجور المستشفى كيف سأدفعها؟! و حتما سيكون مبلغا ليس بالقليل فمن أين لي به..
إلا أن السؤال الذي كان و لا يزال بحاجة إلى إجابة منذ أن وقعت في تلك الورطة، و هو: هل أكون مسؤولا تجاه ما حصل و وقع ؟ و هل هي مسؤولية أخلاقية أم أدبية أم قانونية ؟
و إذن حملت محاور همي و غمي تلك و مضيت.. و طبعا كالعادة حاول الشيطان أن يأخذ مكانه عند مفترق كل مسألة تدور في رأسي و أن يدلي بدلوه فيها .. إلا أن بضعة إيمان كنت أحمله في كل خفقة من خفقات قلبي كان لها فعل العجب في ملاحقة وساوس الشيطان و طردها أو خنقها. و لقد رأيتني أعيش أروع لحظات صفاء و نقاء نفسي و انا في طريق عودتي ذلك أن بضعة الإيمان هذه قد تمكنت فعلا من خنق كل وسوسة شيطانية و أن تسكب في مكانها برد اليقين ! و لو رأيتها كيف تربعت مسألة القضاء و القدر على عرش قلبي و أخذت بناصيته.
_________
كانت المسافة التي تفصل بين مشفى الأطفال التخصصي في سيف الدولة حيث تركت الطفل و بين البيت الذي أقطنه في منطقة سليمان الحلبي ليست قريبة، لكن حلب آنذاك مدينة لا تنام، فالحركة و الضجيج و الأنوار التي تنبعث منها تكاد تجعل منها لؤلؤة مضيئة! اﻷمر الذي يجعل المرء يسير و يتحرك و يتنقل فيها بكل أريحية و من غير أن يشعر بوحشة أو سآمة أو غربة نفسية قاتلة كما هو الحال اليوم..
و كعادتي إزاء أية أزمة أمر بها تجدني و قد انغلقت على نفسي أباشر أحادثها و تحادثني..
و كنت أحمل في جعبتي بضعة محاور للنقاش
فاﻷطباء قالوا بأن حالة الطفل لا تظهر حقيقتها من قبل مرور [٢٤ساعة] و هذا يعني أنني سأبيت ليلتي على قلق و توجس و خيفة ..
و إن متجري الذي أبيع فيه أصنافا من المعجنات و الحلويات سيكون مغلقا مما سيتسبب لي بخسائر ليست قليلة خاصة و أنه لدي التزامات كثيرة و منها التزامات تجاه الجمعية السكنية التي كنت مكتتبا فيها
و لعل الأهم من ذلك كله زوجتي التي تركتها في البيت و هي في حالة إغماء و لست أعرف مالذي جرى بعدها [لم يكن في بيتي يومها هاتف أرضي و لا حتى عند أي من الجيران، كما و أن الهواتف الخليوية لم نكن قد عرفناها بعد ] ..
و ثمة محور آخر أحادث من خلاله نفسي و هو أجور المستشفى كيف سأدفعها؟! و حتما سيكون مبلغا ليس بالقليل فمن أين لي به..
إلا أن السؤال الذي كان و لا يزال بحاجة إلى إجابة منذ أن وقعت في تلك الورطة، و هو: هل أكون مسؤولا تجاه ما حصل و وقع ؟ و هل هي مسؤولية أخلاقية أم أدبية أم قانونية ؟
و إذن حملت محاور همي و غمي تلك و مضيت.. و طبعا كالعادة حاول الشيطان أن يأخذ مكانه عند مفترق كل مسألة تدور في رأسي و أن يدلي بدلوه فيها .. إلا أن بضعة إيمان كنت أحمله في كل خفقة من خفقات قلبي كان لها فعل العجب في ملاحقة وساوس الشيطان و طردها أو خنقها. و لقد رأيتني أعيش أروع لحظات صفاء و نقاء نفسي و انا في طريق عودتي ذلك أن بضعة الإيمان هذه قد تمكنت فعلا من خنق كل وسوسة شيطانية و أن تسكب في مكانها برد اليقين ! و لو رأيتها كيف تربعت مسألة القضاء و القدر على عرش قلبي و أخذت بناصيته.
_________
ذات يوم - 5 -
وصلت البيت منهكا، كانت الأمور فيه شبه مستقرة، و قد لمحت في وجه زوجتي بضع إصفرار، بل و دب فيها الوهن،، و بدت عليها آثار توتر و قلق، و هي تريد معرفة أخباري و أخبار الطفل؟ و مالذي صنعه والد الطفل حين حضر و علم بما جرى ؟ و في ذات الوقت كنت أود أن أسمع منها تفاصيل ماجرى في بيتي فترة غيابي [ لا أكتمكم سرا إذ أقول أن هذه النقطة بالذات غالبا ما كانت موضع خلاف بيني و بين زوجتي! فهي تنتظر مني دائما أن أشرح و أفصل و أبين لها كل شاردة و واردة تمر بي بدءا من لحظة خروجي من البيت و حتى عودتي إليه، فيما أنتظر منها أنا دائما أن تبادرني الحديث عما جرى في بيتي ساعات غيابي عنه! لكننا كلانا غالبا ما نؤثر الصمت و نجلس كالخرسان ثم لا يلبث كل واحد منا أن يعيب على اﻵخر صمته المريب! و اتهامه بأنه لا يشبه الناس النجباء الذين لهم حضور راق في بيوتاتهم! لكنها غالبا ما تكون مبررات صمتي أن الثرثرة للرجال تنزع عنهم هيبتهم و وقارهم حتى و إن كان ذلك في بيوتهم ]
نظرت إلي بصمت زوجتي مستفهمة عن تفاصيل ماجرى معنا منذ أن خرجنا في إسعاف الطفل؟! و نظرت أنا إليها بصمت مستفهما عن تفاصيل ما جرى معها داخل البيت و قد تركتها في حالة إغماء؟ ثم بادرت أنا بالقول: لم يفصح الأطباء عن حالة الطفل، و قالوا علينا أن ننتظر حتى غد لمعرفة النتيجة، و حين حضر الجار و عرف الذي جرى حاول أن يضبط أعصابه تجاهي، لكنه تجاه زوجته لم يكن كذلك بل كاد يضربها في المشفى أمام كل الذين كانوا هناك، وقد عمد إلى نقل ولده إلى مشفى خاص مع أنني أقول دائما أن الطبيب طبيب سواء كان في مشفى خاص أو عام.
عند ذلك بادرتني زوجتي تقول: لقد حضرت امك و أختك بعد أن اتصلت بهم ابنتك إيناس من هاتف للعموم و أخبرتهم بالذي جرى، و عند مجيئهم كنت قد صحوت قليلا و بعد أن ذكرنا لهم ما جرى و قد وجدوا حالتي النفسية يرثى لها، لذا حاولوا التخفيف عني من وقع المصيبة و ذكرت لي أختك بضع حالات مشابهة لا زالت تذكرها قد خرج أصحابها منها بخير و سلام و هم اﻵن على خير ما يرام.
قالت زوجتى هل أحضر لك شيئا تأكله؟ قلت لا .. أشعر بحاجة إلى النوم .. ثم انقلبت إلى فراشي لعلي انام و أغفل .. و عساه يحمل لنا الصبح نبأ خير.
________________
ذات يوم - 6 -
نظرت إلي بصمت زوجتي مستفهمة عن تفاصيل ماجرى معنا منذ أن خرجنا في إسعاف الطفل؟! و نظرت أنا إليها بصمت مستفهما عن تفاصيل ما جرى معها داخل البيت و قد تركتها في حالة إغماء؟ ثم بادرت أنا بالقول: لم يفصح الأطباء عن حالة الطفل، و قالوا علينا أن ننتظر حتى غد لمعرفة النتيجة، و حين حضر الجار و عرف الذي جرى حاول أن يضبط أعصابه تجاهي، لكنه تجاه زوجته لم يكن كذلك بل كاد يضربها في المشفى أمام كل الذين كانوا هناك، وقد عمد إلى نقل ولده إلى مشفى خاص مع أنني أقول دائما أن الطبيب طبيب سواء كان في مشفى خاص أو عام.
عند ذلك بادرتني زوجتي تقول: لقد حضرت امك و أختك بعد أن اتصلت بهم ابنتك إيناس من هاتف للعموم و أخبرتهم بالذي جرى، و عند مجيئهم كنت قد صحوت قليلا و بعد أن ذكرنا لهم ما جرى و قد وجدوا حالتي النفسية يرثى لها، لذا حاولوا التخفيف عني من وقع المصيبة و ذكرت لي أختك بضع حالات مشابهة لا زالت تذكرها قد خرج أصحابها منها بخير و سلام و هم اﻵن على خير ما يرام.
قالت زوجتى هل أحضر لك شيئا تأكله؟ قلت لا .. أشعر بحاجة إلى النوم .. ثم انقلبت إلى فراشي لعلي انام و أغفل .. و عساه يحمل لنا الصبح نبأ خير.
________________
ذات يوم - 6 -
كنت و صديقي عمار [أبو سعيد] نحرص معا على صلاة الفجر في مسجد الحي [جامع شبارق] و كنا نتناوب في شحذ الهمة على ذلك و حين جاء يوقظني في ذلكم اليوم وجد أني قد سبقته في الخروج إلى المسجد ذلك أني لم أرقد يومها و لم أذق طعما للنوم، فالقلق بشأن الطفل لا يزال باد علي! و كلي رجاء و أمل من الله تعالى أن تمر الساعات الثقال هذه و أن يخرج الطفل منها سالما، و ألا أكون سببا
في خراب كيان أسرة كانت تعيش بشيء من وداعة و هدوء [ رغم أنه لا ذنب لي فيما جرت به المقادير ] و بعد أن صليت الفجر و انتهيت من أوراد الصباح، و خرجت بصحبة صديقي عمار و حدثته بالذي كان، فجعل يواسيني و يخفف عني من وقع مصيبتي، قال: ما أراها تمر إلا بخير و سلام، فشكرته على إحساسه الطيب الصادق هذا ، و رجوت له الخير و السلامة دائما.
و في البيت جلست وحيدا، و عبثا حاولت تمضية وقتي ببعض مشاغل عساه يمر الوقت دون عناء، لكن شاهقات الزمن أبت أن تنقضي سريعا !! و عند الضحى حزمت أمري أن أتوجه إلى المستشفى و كلي رجاء أن تكون حالة الطفل قد تحسنت و أن يخرج منها بخير دون أية مضاعفات.
طرقت باب الغرفة و سمح لي بالدخول و تسارعت ضربات قلبي بالنظر لتلهفي لما سأسمع، و بلمح بالبصرة تفرست الوجوه الحاضرة فكانت هادئة، فسكن فؤادي و شعرت بسكينة و طمأنينة، و سألت و أنا أوزع النظر بين الحضور: كيف الوضع؟ فكان الجواب الموحد من الجميع: الحمد لله، ثم قالت الأم قد خرج الدكتور لتوه من الغرفة و بعد أن فحصه قال اطمئنوا فلا شيء يدعو للقلق، و بشكل عفوي تبسمت و قلت الحمد لله بشركم الله بالخير
أمضى الطفل بعدها بضعة أيام في المستشفى، كنت أتردد عليه خلالها في الصباح و في المساء، و حين صرح الدكتور بإمكانية تخريجه انقبض عندها قلبي و بدأت أتلوى من أين لي بتسديد نفقات المستشفى و قد شعر والد الطفل بحرجي الشديد فمال علي و همس في أذني قائلا لقد تكفل أحد التجار بتسديد نفقات المستشفى! تبسمت ثانية بغبطة و قلت موجها كلامي للأب: لا يخلو الأمر من وجود أهل خير.
في خراب كيان أسرة كانت تعيش بشيء من وداعة و هدوء [ رغم أنه لا ذنب لي فيما جرت به المقادير ] و بعد أن صليت الفجر و انتهيت من أوراد الصباح، و خرجت بصحبة صديقي عمار و حدثته بالذي كان، فجعل يواسيني و يخفف عني من وقع مصيبتي، قال: ما أراها تمر إلا بخير و سلام، فشكرته على إحساسه الطيب الصادق هذا ، و رجوت له الخير و السلامة دائما.
و في البيت جلست وحيدا، و عبثا حاولت تمضية وقتي ببعض مشاغل عساه يمر الوقت دون عناء، لكن شاهقات الزمن أبت أن تنقضي سريعا !! و عند الضحى حزمت أمري أن أتوجه إلى المستشفى و كلي رجاء أن تكون حالة الطفل قد تحسنت و أن يخرج منها بخير دون أية مضاعفات.
طرقت باب الغرفة و سمح لي بالدخول و تسارعت ضربات قلبي بالنظر لتلهفي لما سأسمع، و بلمح بالبصرة تفرست الوجوه الحاضرة فكانت هادئة، فسكن فؤادي و شعرت بسكينة و طمأنينة، و سألت و أنا أوزع النظر بين الحضور: كيف الوضع؟ فكان الجواب الموحد من الجميع: الحمد لله، ثم قالت الأم قد خرج الدكتور لتوه من الغرفة و بعد أن فحصه قال اطمئنوا فلا شيء يدعو للقلق، و بشكل عفوي تبسمت و قلت الحمد لله بشركم الله بالخير
أمضى الطفل بعدها بضعة أيام في المستشفى، كنت أتردد عليه خلالها في الصباح و في المساء، و حين صرح الدكتور بإمكانية تخريجه انقبض عندها قلبي و بدأت أتلوى من أين لي بتسديد نفقات المستشفى و قد شعر والد الطفل بحرجي الشديد فمال علي و همس في أذني قائلا لقد تكفل أحد التجار بتسديد نفقات المستشفى! تبسمت ثانية بغبطة و قلت موجها كلامي للأب: لا يخلو الأمر من وجود أهل خير.
- يحيى محمد سمونة -
شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة