"موتُ الصّالحِ راحةٌ لنفسهِ،
وَ موتُ الطّالحِ راحةٌ للناسِ."
عليٌّ بن أبي طالب -ع-
رَجلٌ فَكِّرَ كالآخرينَ، مَرةً نَجحَ في تَزْويقِ فِكرةٍ ما، وَ عَـمـــلَ جاهِـدًا في إيصالِها بِشتَّىٰ الوسائلِ وَ إقناعِ ما حاطَ بهِ.. بِجَدواهـا.
في مَراتٍ أُخرَىٰ، لَطَمَ الفَشَلُ وَجْهَهُ ثُمَّ تَذوَّق ما سالَ مِنْ عَيْنيـْهِ وَ أَنْفـِـهِ، وَ قَبَّلَ كَفّـَـهُ؛ لأنّهُ ما زالَ يُفكـّـــرُ!
وَصَلَـهُ خِطابٌ، دَعاهُ أنْ يَدخُلَ ضِمنَ جَوقـــةِ المُفكّرينَ في مُؤسَّـسَةٍ إجراميةٍ.
بِدْءًا.. ثارَتْ في نَفسـِـــهِ عِزَّةٌ وَ كِبرياءُ، لَيسَ لِغَرابةِ مَضمونِ العرضِ في الإنتماءِ إلىٰ مؤسَّـسَــةٍ لَمْ يَعترضْ عَلىٰ عَملِها فَحَسب؛ إنّما عَلىٰ وَقتِ وُجُودِها في عالَمٍ
سادَهُ الأمانُ وَ الأُلفـــــــةُ. بَيْدَ أَنَّهُ شَعرَ بالزّهْـوِ وَ الغِبطـةِ، وَ قالَ في نَفسـِــهِ:-
-- العالمُ لَمْ يَزلْ بِخيرٍ، طالَما ثَمَّ مَنْ يَعرِفُ " إنِّي أُفكــــرُ!"
مَرَّتْ ساعاتٌ ثَقِيلةٌ لِلرَدِّ عَلىٰ العَرضِ، تَأمَّلَ فيها أساليبَ الجَريمَةِ وَ أَسبابَهـــا
وَ نتائجَهـــــا، فَقالَ:
-- هٰذا بَحرٌ، أَغُوصُ فيهِ لأقتاتَ مِنْ أعْشابِهِ وَ أسماكِهِ، وَ أَربطُ في عُنِقي قِلادةَ لـؤلـؤٍ وَ فَيـْرُوز!
تَسَلَّمَ عَمَلَهُ مُتَدرِّبًا- إلىٰ حِينَ إثباتِ قِدرَتَهُ- في الإعْدادِ لِسَلْبِ الرَّاحَةِ مِنْ 'رَأسِ المؤسـسةِ'.
قُدِّمَتْ أَمامَهُ مَلفَّةً خاصَّةً، تَحْوي مَعلُوماتٍ تَفْصيليَّةٍ وَ صادقَةٍ إلىٰ حَدٍّ ما. تَصفَّحَها، دَرَسَها بإمعانٍ، وَجَدَ فيها ثَغرَةً يَنفِذُ مِنها، لِيَعمَلَ مُخَطَّطًا عَنكبُوتيًّا يُوْقِعُ المَعنيَّ في مِحْنَةٍ وَ عَدمِ راحةٍ.
فُتِحَتْ فُرُوعٌ للمؤسَّـسةِ في أَماكنَ كَثُرَتْ فيها الجَريمَةُ وَ نَشطَتْ عصاباتٌ أُخْطبُوطيَّةٌ هَيْمَنَتْ عَلىٰ ما يَتَعلَـــــقُ بِمصادرِ الرَّفاهيَّةِ وَ السَّعادَةِ.
بَعدَ لِقاءاتٍ طويلةٍ، تَخلّلَتْها نقاشاتٌ مُحتدمةٌ.. وَ بَعدَ الّتي وَ اللُّتيّــا، إقـتـنــعَتْ الأكثريةُ بالفكرةِ وَ لَمْ يَعترضْ عَليها إلَّا نَفرٌ قَليلٌ مِنَ الحَرسِ الشَّخْصي لِمسؤولياتِهم الجَديدةِ وَ اِتساعِ رُقعةِ الحَـركةِ وَ الـمُناورةِ.
وافقَ الجَميعُ بعدَ معالجةِ زيادةِ أعدادِهم وَ مكاسبـِـهم الماديةِ وَ إدخالِ وَسائلٍ حديثةٍ في الحمايةِ.
أُختيرَتِ المَنطقةُ- س- للعَملِ فيها، وَ هي منفتحةٌ لأنـواعَ الجريمةِ جُلَّها!
وَ الأدهَـىٰ.. إنّها تُصَدِّرُ أعتَىٰ المُجرمينَ إلىٰ مَناطقَ مُحاذيَةٍ لَها. مَعَ ذٰلكَ.. أشرَفَ الرَّأسُ شَخصيــًّا عَلىٰ تَنفيذِ جَريمَةٍ بِحَقِّ أحـدِ رمـُــوزِ العصاباتِ، بنجاحٍ وَ سريَّةٍ تامَّةٍ، لَمْ تُتْرَكْ آثارٌ لِملاحَقَةِ وَ مَعرفةِ المُنفِّذِ، مِمّا أثارَ حَفيظَةَ المَجمُوعَةِ الّتي فَقدَتْ رَأسَها في وَضحِ النَّهارِ.
اِخْتلطَتْ أَلوانُ الطَّيفِ الشّمسي لَديهم، وَ أَلصَقوا التُهــــــمَةَ بِمجمــوعَةٍ تَبتزَّهم
– بعضَ الأحيانِ– في المَيدانِ الإجراميِّ. استمرَّتْ الإغتيالاتُ بُضعةَ شُهُــورٍ، ممّــا أرعـَـبَ القاصي وَ الدّاني، وَ تَفَكَّكَتْ عَناصرُ المَجموعاتِ وَ هاجَرَ الكَثيــــرُ مِنهم للهرُوبِ بجلدِهِ وَ لِشعورِهم المُتأخِّــرَ بوَخزَةِ ضَميــرٍ، وَ مَقـتِهم لِحَياةٍ مُقـرفةٍ في سَراديبِ الرَّذيلـَـةِ.
طالَتِ التَصفياتُ عَناصِرََا عديدةً مِنَ المَجموعَةِ الوافدةِ حَديثًا، وَ تقلّــبَ الرَّأسُ في فَراشِهِ كَثيرًا، لَمْ يَعُدْ يُمــيّزُ بينَ أمرٍ وَ نَقيضِـهِ.. بَينَ واقعٍ يُنْبيءُ بنهايتـِـهِ إذا اِسْتمرَتِ الأحداثُ تَباعًا، وَ نهايَةِ طُمُوحِــهِ الذي يَكادُ يَتحقَّقُ معظمَهُ حِينَما إنفردَ فيهِ بضَربَةِ ساحِرٍ.
دَعَىٰ أفرادَهُ للتشاورِ وإبْداءِ الآراءِ في موضوعَ محدَّدٍ: -أمّــا الإنسحابُ مِنْ مَنطقةٍ أضحت مُلكًا لَهم- وَ هٰذا هـو الإندحـــارُ الذي لا يمكنُ التفكيرَ فيهِ! أو السَّيرُ قُدُمًا في نَفقٍ وَ كابُوسٍ رَهيبٍ لا يَرغبُ أحدٌ البقاءَ تَحتَ وَطأَتِهِ في ضُوءِ مَكاسبَ ثمينةٍ تَحقَّقَتْ بسرعةٍ مذهلةٍ.
تقررَ اِستدعاءَ-المفكّر- وَالإستنجادَ بهِ لَعلّهُ يَضعُ نهايَةً لِهٰذا المَأزقِ وَ التَّقهـقرِ اللامُتوقَّعِ، بِإعدادِ خُططٍ بَديلَةِ للمحافظَةِ عَلىٰ ماءِ الوَجهِ وَ البَقيـَّـةِ الباقيةِ مِنَ المُؤسَّـسةِ العَتيدَةِ.
-- أنْتَ الوَحيدُ بَيننا حَيًّا، وَ جَميعُنا يَحمِلُ نَعشَهُ في هٰذا العالمِ - بِما فيهم أنَا- فَعلَيكَ أنْ تَبعثَ فينا حَياةً ثانيةً بأفكــارِكَ!
هٰكذا بَدأَ الحُوارُ وَ دامَ أكثرَ مِنْ ساعَةٍ، ثَقيلًا، مُعقّـــدًا زادَ الإرهاقَ تَعبًا آخرَ، لَعبَ بأعصابٍ مُتوتّرةٍ إلىٰ أقصىٰ حَدٍّ.
حُوارٌ يَنبغي أنْ يَتصفَ بشفّافيَّةٍ
وَ هدُوءٍ وَ تضميدِ جِراحٍ عَميقةٍ... لكنَّهُ مُثيرٌ، اِسْتفزازيٌّ حَجَــبَ الرُّؤيـا عَنِ الدَّوافـعِ الكامنَـــــةَ وَراءَهُ.
بِجُرأةٍ وَ دُونَ تَردُّدٍ.. أَصَمَّ السَّـمـعَ إعترافٌ بصَوتٍ عـالٍ وَ واثِقٍ:-
-- أَنَا المَسْؤُولُ عَنْ مَوتـِكُم...
كَيفَ لي أنْ أبعثَـكُم ثانيــَةً؟!
اِنبهرَ لِهٰذا الكَلامِ الرَّأسُ، أُسْقِطَ مِنْ يَدهِ زَمامُ السَّيطرةِ عَلىٰ نَفسِهِ. إتسعَتْ مُـنخرَيهِ المُزرّقتينِ، مَدَّ لسانهُ يُرطّبُ شفتيـهِ المتهدّلتين قبلَ أنْ يعتصرَهُ ألمُ غُصَّةٍ صَعدتْ مِنْ أحشــاءِهِ وَ أسدلَـتْ ستـارةً سوداءَ عَلىٰ بَصـرهِ، ثُمَّ بَصيرتـهِ!
إنفـتحـُـتْ عينيهِ أكثرُ، اِحمرتْ وَ تحركتْ بلا جدوى، دارتْ فــــي محاجرِها بسرعةٍ.
إتسعتْ الأجفانُ إزاء جحوظِ كُرَتي عينيهِ، وَ سَقطَ جثةً هامدةً!
كُلُّ محاولاتِ الإسعافِ؛ لإرجاعِ التوازنِ وَ الحياةَ الطبيعيةَ في الجثَّة،ِ باءتْ بالفشلِ!
إصطكّتْ أسنانُـهُ وَ دامَتْ الغيبوبةُ يومين، بعدهـــا" ذَهـَبَ أدراجَ الرِّيــــــاحِ" !!
بهذه العبارةِ خُتــِمَ بيانُ النعيِّ وَ أَطْبقَ الصمتُ جناحيــــهِ على عناصـــرِ المُؤسـسةِ، وَ لمْ يَتسألْ أحـدٌ عن مصــيرهِ وَ مستقبـلهِ، وَ لا عن كيفيةِ مــوتِ رأسِهم الجـبارِ، فَذٰلك لا يُخفـِّفُ عـبءَ المجهـولِ القـــابلِ!
عادَ الرجلُ– بمفردهِ– يفكّــرُ في تأسـيسِ نظــريةٍ تقـــودُ المؤمنينَ بـها إلىٰ عالمٍ يخلو من أفعالٍ شريرةٍ وَ مُؤسـساتِ إجرامٍ، وَ حينها يبحثُ عَمَّـنْ يَمنحُـهُ حَيويـَّةَ وَ عنفوانَ التَّفكـــــيرِ.
(صاحب ساجت/العراق)
* النص الفائز بالمركز الاول/مسابقة القصة القصيرة/ مجلة تراث الفيحاء الادبية.
شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة