من المعروف أن السيطرة الفنية على أبعاد الشكل فى الفن مسألة فى غاية الأهمية والصعوبة لايستطيعها غير فنان قادر على السيطرة على أدوات فنه خاصة فى فن مرهف مراوغ كفن القصة القصيرة،ومن الطبيعى أن ثمة أعمالا قصصية يحتل فيها الشكل البنائى حيزا يخل بالعلاقة بين الشكل والمضمون أوـ بتعبير أدق يخل بالنسب الدلالية لمكونات الشكل الفنى غير أن هذا الخلل لايجعل العمل الفنى شكليا فقط، وإنما يخل بأحد مقومات بنية الشكل، وهو الانسجام الجمالى لمكونات الشكل،وهذا الخلل هو دليل حسى على اضطراب المضمون لدى القاص أو قل اضطراب التجربة لديه فهى مشوشة لم تتبلور وضبابية لم تتحدد، وهذا يؤكد أن (شكل القصة أو القصيدة مرتبط أصلا بالوظيفة التى تشكل من أجلها مادام قد كتب لقارىءفى مجتمع قائم الآن أو سيقوم فى المستقبل،وهذا التواشج بين الشكل والوظيفة يؤكد على أن الاهتمام بالشكل ليس مجانيا وإنما هو تعبير عن مدى الاهتمام بمدى قدرة المبدع على تحقيق أغراضه) ( 1)
هنا أريد أن أشير إلى أن مفهوم الشكل ليس على معنى الوعاء المجرد الذى ينصب فيه المضمون بل الشكل هو التعبير والبناء معا والقدرة على ـ توتير الجدل ـ إن صح التعبير بين العناصر الجمالية الشكلية لخلق الدلالات الإنسانية للقصة وذلك من خلال الاستجابة سواء ـ لدى الكاتب أو القارئ ـ لمفاهيم التوازن والوحدة والاستمرار فى بنية الشكل نفسه بمعنى أن يتحقق فى النص هذا التوازن بين العناصر الجمالية التى تتفاعل من خلال وحدة انطباع إنسانى ما فى كافة مكونات الشكل القصصى، وعندما يتجادل الرمز وما له من محددات فنية مع الشكل القصصى وما له من محددات جمالية، يصير الشكل الرمزى للقصة ذا دلالة خاصة (فالشكل ليس الرموز وإنما هو التعبير الكلى بالرموز.. فليس المخطط الهندسى للقصيدة ـ أو القصة ـ هو شكل القصيدة أو القصة ـ بل الشكل فى العمل الأدبى التعبير البنائى وليس المخطط الهندسى)(2)
فإذا انتقلنا إلى المجموعة القصصية "مختارات من القصص القصيرة الأوزبكية"تأليف مجموعة من الأدباء الأوزبك.ترجمة وتقديم د.مرتضى سيد عمروف (باحث أكاديمي بمركز الإعلام والدراسات العربية-الروسية)مراجعة د.نعمة الله إبراهيموف.سلسلة إبداعات عالمية. المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب. الكويت، 2009م.
اكتشفنا في-هذا الكتاب-اشراقات إبداعية حول فن القصة القصيرة في الأدب الأوزبكي الحديث لا تخطئ عين القارئ نورها وإشعاعها.علما أن أوزبكستان ذات تاريخي حضاري عريق يرتبط جدليا بالعالم الإسلامي.
هذه المختارات القصصية هي من تأليف مجموعة من الأدباء الأوزبك وقد تجلى فيها النقد الإجتماعي بوضوح وشكل النواة الأساسية.وهو نقد يؤسس للإصلاح بأسلوب لا يخلو من-سخرية لطيفة-لا تجرح المشاعر بقدر ما تدعو للتحابب،التسامح والمحبة.
تدور أحداث هذه القصص المختارة بعناية فائقة في أغلبها حول المدينة والقرية والمؤسسة الأسرية،وتعكس في مضامينها تداعيات الفقر والبؤس الإجتماعي،كما تعود بنا أيضا إلى زمن الطفولة الذى يظل أفق ابتسام على مدى عمرنا كله.
الطابع الحكائي في سياق السرد القصصي يتجلى بوضوح وهو أقرب إلى السرد الشفاهي،إذ أن السارد يتوجّه بخطابه إلى المتلقي أو/السامع أحينا."عدا القصة الأخيرة من الكتاب "الزنبقة" لأولوغبيك حمدم،فهي القصة الوحيدة التي ليس بها شيء من تقاليد الحكي الشفاهي، وتستخدم تيار الوعي في سرد فكرة وجودية دون ظلال اجتماعية أو سياسية في محاولة لوصف المشاق والمنافسات والجرائم التي يمكن أن يقترفها الإنسان في سبيل الوصول إلى الزنبقة الكائنة أعلى قمة جبل صعب الارتقاء في ترميز إلى الحقيقة الكلية للوجود التي يظن كل إنسان قدرته الخاصة في الوصول إليها، فيحاول،وكلما ظن أنه وصل اكتشف أن الطريق لم يزل بعيدًا وأن مئات غيره سقطوا من دون أن يصلوا إلى شيء." (لمزيد الإفادة حول هذا الموضوع أنظر المقاربة القيمة للأستاذ منير عتيبة مؤسس ومدير مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية-)
أما قصة "الصف" لخورشيد دوست محمد،فهي لا تخلو من دلالات رمزية إذأنها تشبه الحياة بصف يقف الناس فيه بترتيب السن الأكبر فالأصغر،ويذهبون للأفراح والعزاء،لكن الموت يأخذ من يريد دون التقيد بترتيب الصف،وفي الصف مجاملات وعداوات وطمع كما في الحياة نفسها. أما قصة "الجد والحفيد" لطاغي مراد فهي قصة عذبة تروي بضمير الراوي العليم، لكن من وجهتي نظر الجد والحفيد، كل منهما وحيد، الحفيد صغير في عالم كبير لا يفهم منه إلا قليلًا،والجد وحيد بعد أن أحيل للتقاعد،وكأن القصة تضع الحياة بين قوسي بدايتها ونهايتها."
وهنا أشير إلى ما قيل عن أهمية الترميز في الإبداع.ومما قيل إن المبدع الحقيقي،المبدع الكبير،هو ذلك الذي يستطيع أن يغلّف رؤاه ويجعل القارئ المتمرس يشعر باللذة والإثارة وهو يختطف المخفي من النص الأدبي،ولن يستطيع المبدع ذلك إلاَّ من خلال استخدام الرموز،التي من شأنها أن تحرر لغته من سطوة المعنى الخارجي،وأن تمنحه بُعداً يبدو للبعض خفياً وللبعض الآخر جلياً.وهذا البعد يتمثل في الرمز الذي لم يصل الإبداع إليه إلاَّ بعد تأمل طويل ووقفة مع الأعمال الإبداعية العظيمة،بتجلياتها الخلاقة وما تحمله من أبعاد وتأويلات.وقد كان للأساطير التي دخلت عالم الرؤى المتناقضة دورٌ لا يُنكر في العثور على هذا المستوى من الكتابة الرامزة.-وقد نجح-في تقديري-القاص خورشيد دوست محمد-في مقاربة الحياة بأسلوب فني،إذ بنى قصته فى صور تراكمية أشبه بالمونتاج السينمائى،ولكن هذا التراكم يدفع به القاص إلى التكامل والتفاعل من خلال حركة السرد القصصى.ففى هذه القصة الرمزية يبلغ الرمز مشارف فنية مشعة بالايحاءات الثرية والدلالات المتعددة.
أما القاص-ويعطي غفور غلام فقد أعطى لقصته "أيها الولد اللص" عنوانًا فرعيًا هو "قصة واقعية"،ليؤكد تماهي الكاتب مع السارد؛حيث يحكي قصة واقعية حدثت عندما كان عمره أربعة عشر عامًا، حيث كان عيش هو وأخواته مع جدته بعد موت أبويه، كانوا فقراء للغاية، ومع ذلك يهبط لص على منزلهم،فتوقف الجدة اللص وهي تناديه (أيها الولد اللص) ثم تحاوره محاورة طويلة عن سوء الأحوال المادية للجميع والكساد وانتشار الفساد والرشوة والفقر والشحاذين، كل ذلك بسبب الحرب العالمية الأولى،فتصادق الجدة اللص وتدعوه ليشرب معها الشاي، الشيء الوحيد المتاح لديها،أو يأخذ آخر ممتلكاتها إناءً كبيرًا ليبيعه ويصرف منه على أسرته، لكنه يرفض ويغادر."
وهى قصة جميلة ومؤثرة ببنائها الجمالى الرمزى الذى دفع بالرمز عبر مشاهد حسية متعددة من شأنها تأجيج الجدل الفنى القائم على التناقض بين خيال الكاتب ورؤياه والواقع من حوله.
وهنا أن الرمز الفنى عبارة عن تجادل عالمين أحدهما واقعى مادى والآخر انفعالى إنسان، كلاهما يتجادل مع الآخر، و يتنامى به ولايذوب فيه، كما أن الرمز ليس كما قال-بعض النقاد-على غرار الأستاذ محمد جبريل يستمد كل معناه من الناس الذين يستخدمونه،بل يستمد بعض معناه وليس كله من الاتفاق بين الكاتب والقارئ على المواضعة اللغوية والمواضعة الاجتماعية ولكن يبقى للرمز بعد ذلك كما أوضحت فى بداية هذا البحث اشعاعه الذاتى الخالص القادر على إثراء المعانى بلا حدود بين الرمز وما يرمز إليه كما هو الحال مثلاً فى معظم الصور الأدبية الأخرى كالتشبيه والاستعارة وغيرهما.وإن قراءة قصة (أيها الولد اللص) تؤكد نجاح
القاص فى حشد الصور الحسية الواقعية وانمائها على طوال البناء الفنى للقصة.فهى-موغلة- فى غرابتها وشفافيتها فى آن فى مواجهة تصورات الواقع الغليظة الكسيحة،والخيال قادر فى الفن على أن يحول تناقضات الواقع التى جابهها القاص فى السخرية أحيانا ـ يحولها إلى كمال وتماسك جمالى يكون قادرا على التشكيل والدلالة فى وقت واحد خاصة أن الفنان فى عالم الرؤى يكون قادرا على استقطاب ( اللامرئى من خلال المرئى،وينداح فى اللازمن من خلال عناصر الزمن،ويسعى للاندماج فى الحقائق العليا،بل ربما يربط بين ما يكون موضع التفكير بما لايمكن أن يكون..
على سبيل الخاتمة :
من النافل القول بأن كل عمل أدبي مؤثر وليد طاقة خلاّقة تدرك بقدراتها الاستثنائية ضرورة أن يكون لكل نص أدبي بُعْدَان: خارجي ميسور التناول،وداخلي غائرٌ في أعماق النص لا يدركه سوى قلة من القراء،وهذا الشيء الغائر في النص هو الرمز الذي يتوسله المبدع وسيلة فنية عميقة تكشف عن طاقة المبدع واقتداره على تجاوز المعنى الظاهر للنص الإبداعي،شعراً كان أم قصة أم مسرحية.وهذا الترميز لا يأتي -كما قد يظن البعض-خوفاً من سلطة الرقابة المهيمنة على مسار الإبداع في كل مكان من العالم، وعالمنا الثالث بخاصة،وإنما يأتي استجابة لدواعٍ فنية ولما يبعثه من إيحاء ويثيره من متعة وتأمل.
يحدد أدونيس الرمز في الشعر فيقول: "الرمز هو ما ينتج لنا أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص، فالرمز هو قبل كل شيء معنى خفي وإيحاء؛ إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، والقصيدة التي تتكون في وعيك بعد قراءة القصيدة؛إنه البرق الذي يبيح للوعي أن يستشف عالماً لا حدود له.لذلك هو إضاءة للوجود المعتم،واندفاع صوت الجوهر".
وإذا كان ذلك هو الرمز في الشعر،كما حدده أدونيس،فإن الرمز في القصة،كما يمكن لنا أن نقول، هو القصة الأخرى التي تبدأ بعد أن تنتهي القصة،وتبدأ مرحلة التأمل والاستغراق في قراءة الدلالات.
وإذا كان على المبدع أن يحفر عميقاً في داخله بحثاً عن نص أدبي يشغله ويؤرقه،فإن القارئ المتمرس مطالب بأن يحفر عميقاً في داخل هذا النص المنجز،النص القائم على مرتكزين اثنين: الظاهر والباطن،إذا جاز التعبير.والظاهر في حالة فن السرد هو ما يقدمه القاص من حكاية تدور حول الدلالة المباشرة لحادثة ما أو شخصيات ما.وعلى العكس من ذلك،الباطن،الذي يفتح النص لما هو أعمق وأغنى في الدلالة غير المباشرة،وهو بمكوناته الأسلوبية يستحضر المعنى البعيد، المعنى الموازي والمتخيل.
وما من شك في أن هذه النخبة من القاصين الأوزبكيين قد صنعوا-بمهارة عالية-لأنفسهم موقفاً خاصاً في مجال القصة الأوزبكية،سواء في اختيار موضوعاتهم المتخَمة بالرموز والدلالات،أم في لغتهم القريبة من القلب،أم في تعاملهم الواعي والذكي مع الرموز.
إن نظرة متأنية إلى مجموعة القصص بإمضاء نخبة-كما أسلفت-من القاصين الأوزبكيين التي اطلعت على العديد منها ،تشي بانعكاس الدلالات الرمزية في معظم قصص هذه المجموعات،إن لم يكن فيها كلها،وبدرجات متفاوتة، ابتداءً من الإيماء إلى الرمز البسيط إلى المعادل الموضوعي،وفق رؤية فنية يستطيع المتلقي القبض عليها بسهولة،وبعيداً عن الإبهام والتعتيم.
ختاما أقول :
بدءاً لاتوجد قصة بدون منظور اذ يتم التقاط زاوية السرد،والمنظور عبارة عن العين التي يتم من خلالها سرد الحدث ولا يرتبط بالضرورة بالراوي ،فقد يقوم بسرد الحدث من منظور شخصية اخرى اذا كان السرد بضمير الغائب،فالراوي الذي يقوم بالسرد بضمير المتكلم يتميز عن شخصيته التي يقوم بسرد ما يجري لها ،فقد يقوم بسرد حدث مرَّ به عندما كان صغيرا،او ينتمي لمدة زمنية سابقة على زمن السرد،وهنا لا بد ان نميز بين منظور الشخصية بوصفها فاعلة في الحدث عندما كانت جزءاً منه،ومنظور الراوي بوصفه راويا يقوم بسرد متأخر لحدث حدث من قبل وكان جزءاً منه بوصفه شخصية .
في هذا الإبداع القصَصي لنخبة من الأدباء الأوزبكيين،تتجلى لنا بوضوح مقومات القصة القصيرة حيث إعتمدوا التكثيف والترميز والذي هو الإقتصاد في الكلمات والإكتفاء بالقليل منها وخالية من الزوائد والحشو الوصفي والاستطرادات والإنثيالات الواعية وغير الواعية وايضا الإيحاء،وهو التكثيف الناجح الى لغة مشعة بالإيحاءآت والدلالات وجعلوا القارىء يعرف ما تتحدث عنه القصة،يضاف الى ذلك المفارقة التي هي عبارة عن جريان حدث بصورة عفوية على حساب حدث آخر هو المقصود في النهاية ،وكذلك الخاتمة التي تعد الغاية والهدف في القصة القصيرة لأنها تختلف عن اساليب الخاتمة في الرواية مثلا،كونها ليست وليدة السرد او من مفرزاته،بل انها نص متحفز الى الإدهاش والإستفزاز .
باقة من التحايا أهديها بفخر واعتزاز إلى الأدباء بدولة أزوبكستان الإسلامية الشقيقة،
ونفس التحايا تساق إلى كل من الدكتور المتميز مرتضى سيد معروف وأيضا الأستاذ الفاضل خالد بن أحمد اليوسف،متمنيا في ختام هذه المقاربة المتواضعة النجاع والتوفيق لهذا المشروع الثقافي الواعد والطموح.
شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة