إن للعقل أهمية كبري ، وفائدة عظمى ، وضرورة قصوي ، وهو النعمة التي كرم الله سبحانه وتعالى بها الإنسان ، وميزه علي سائر مخلوقات ، وجعل سبحانه وتعالى ، الحفاظ عليه ، من مقاصد الشريعة ، وحرم كل ما يغيبه ، من خمر وغيره ، وجعله أساس التكليف والالتزام بأوامره ونواهيه ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ) .
ولا شك أن الإنسان الواعي المدرك ، أفضل بكثير من الفاقد للوعي والإدراك ، فتجد تصرفاته متوازنة وهادئة ، ومتمشية مع النسق العادي للأمور ، وموافقة مع المنطق السديد والفطرة السليمة ، والتي تكون أنفع للفرد وللمجتمع ، سواء كان هذا الوعي ، ديني أو أخلاقي أو معرفي أو ثقافي ، وفي كل مجالات الحياة ، والتي تجعله معول بناء لنفسه وللمجتمع الذي يعيش فيه .
إن استخفاف الطغاة للشعوب والجماهير ، وحرمانهم من كل سُبل المعرفة ، وحجب كل سبيل للوصول إلى الحقيقة ، وإلقاء الرعب والخوف في قلوبهم ، وتكريس الهجوم علي الشخصيات الناجحة ، والإساءة إلى الرموز الوطنية والدينية ، وتفكيك العلاقات بين أبناء الوطن الواحد ، حتي يصير كالجذر المنعزلة ، وصرف انتباه الأمة عن القضايا المصيرية ، واشغالهم بقضايا تافهة وفرعية ، ونشر الشائعات ، ما هو إلا تغيب مُتَعَمّد للوعي .
إن العدو الحقيقي ، والخطر الداهم ، للأنظمة المستبدة ، والحكومات الفاشية ، هو وعي الشعوب ، واستخدام أبنائها للعقل ، وتحصنهم بالعلم ، وقضاءهم على الجهل ، لذلك تحرص كل الحرص ، على إبقاء الجانب العلمي والمعرفي والثقافي في أسوء حالاته ، واردأ مستوياته ، حتي يسهل السيطرة عليهم ، ولكي تضمن بقائهم بلا أنياب حقيقية .
يُحكى أنه في العاصمة الهندية نيودلهي، كان سفير بريطانيا ، يمر بسيارته مع قنصل مملكته ، وفجأة رأى شاباً هندياً جامعياً يركل بقرة ،
أمر السفير البريطاني سائقه بأن يتوقف ، وترجّل من السيارة مُسرعاً نحو البقرة "المُقدسة"، يدفع عنها الشاب ، صارخاً في وجهه ، ويمسح على جسدها طالباً الصفح والمغفرة ، وسط دهشة المارة الذين تجمعوا بعد سماع صراخ السفير البريطاني ،
وفوجئ الحضور أن السفير البريطاني ، يأخذ من بول البقرة ويمسح ببولها وجهه ، فما كان من المارة ، الا أن سجدوا تقديراً لربّهم "البقرة"، ذلك الربُّ الذي نصره السفير البريطاني ، وتوجهوا بعد ذلك إلى الشاب الذي ركل البقرة ، وأوسعوه ضرباً أمام البقرة انتقاماً لقدسية مقامها ورفعة جلالها .
عاد السفير بقميصه المُبلل بالبول ، وشعره المنثور ليركب سيارة السفارة ، إلى جانب القنصل الذي بادره السؤال ، عن سبب ما فعله وهل هو مقتنع حقا بعقيدة عبادة البقر ؟ أجابه السفير: أي بقرة يا عزيزي ! هل نسيت أننا تناولنا على الغداء لحم بقرة ..؟ اسمع.. إن ركلة الشاب للبقرة ، هي صحوة وركلة للعقيدة المغلوطة التي نريدها ، ولو سمحنا للهنود بركل العقائد المغلوطة كما فعل الشاب ، لتقدمت الهند خمسين عاماً إلى الأمام ، وحينها سنخسر وجودنا ومصالحنا الحيوية ، فواجبنا الوظيفي هنا ، هو ألا نسمح بذلك أبداً ، لأننا نُدرك بأن الجهل والخرافة وسفاهة العقيدة ، هم جيوشنا في تسخير المجتمعات .
إن هذه القصة تعبر عن وجه من وجوه ، فن تجريف العقول ، وتغيب الوعي ، الذي يهدف إلى بقاء مئات بل آلاف من عُبَّاد البقر ، ومُرِيدون الوثن و الحجر ، ومُألِّهُون البشر ، تتصدر المشهد في كافة المجالات ، دون أن يناقشهم أحد ، وجعلهم تابوهات مُقدسة ، من يخرج عن رأيهم ، فهو آثم يستحق التخوين و التنكيل والطرد والإبعاد .
وفي قصة فيلم " تيتانيك" ، آيه وعبرة ، وخير دليل ، وأوضح شاهد ، علي تغيب الوعي ، فقد غرق معظم من على السفينة ، وبالرغم من أن معظم الغرقى ، كانوا من النساء والأطفال وكبار السن ، إلا أن حبكة الأحداث التي قام بها المخرج ، جعلت تعاطف المشاهدين مع بطل الفيلم ، أكثر بكثير من تعاطفهم مع غيره بالرغم من كونه ( لص وعربيد ومُدمن خمر ولاعب قمار ) .
هكذا يتلاعب الإعلام بالعقول ويجعل المشاهد يرى ما يريده المخرج ، ويتأثر المشاهد وينفعل ، وينفطر قلبه من البكاء لأن المخرج استخدم من المؤثرات الصوتية والضوئية والتصويرية ما يجعله يلعب بعقول وقلوب ومشاعر المشاهدين كما يلعب الصبيان بالكرة .
إن بناء وعي المجتمع لا يتأتى إلا ببناء وعي أفراده ، ببناء وعي الإنسان لذاته ، والتي لا تتم إلا بالعلم والمعرفة ، في كل مناحي الحياة ، من خلال عملية تراكمية ، تتوارثها الأجيال ، جيل من بعد جيل ...
تم إرسال تعليقك
شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة