أهدتني "بنتُ النيل" كما تحبُ أن تُكَنِّي نفسها (شيرين أبو عميرة) كتابها المُعَنْوَنُ "نفسي وأنا خواطر مع الذات" وما كدت أتناول الكتاب حتى استوقفني عنوانه الذي يوحي بالاستغراق في الخصوصية الشديدة مع الذات الدافعة للكتابة . فالأنا تحاور النفس في "ذاتية" لتنتج لنا "خواطر" .!! مما أوقعني في اشتباك مع عنوانه قبل الدخول إلى محتواه . وبات لي من الوضوح بمكان أن "أبو عميرة" لها تجربتها الخاصة جداً التي لم تتجاوز محيطها "الذاتي" ولم تخرج عن عالمها وواقعها المعاش قيد أنملة لتكتب ماكتبت وما نعتته لنا بالخواطر . هذا النعت الذي استوقفني مرة أخرى مع مصطلحه "خواطر" ورحت بيني وبين نفسي أردد هذه الكلمة وكأنني أقرؤها لأول مرة "خواطر" وأريد أن أضع لها تعريفاً "نقدياً" يجعل لها مكاناً بين أدبيات الكتابة المنثورة . وهل تستحق "الخاطرة" هذه المكانة أم أنها بمنأى عنه .!؟ فمن المعروف في أوساطنا الأدبية والنقدية أننا نطلق هذه المفردة على كل ماهو دون مستوى الشعر والقصة القصيرة والمقالة وأننا إذا ما أتانا آتٍ بمنتوجه من الكتابة ولم نجد له تصنيفاً أدبياً يليق بما كتب؛ رددنا عليه منتوجه وقلنا له إنه لا يتعدى كونه "خواطر" أو "حديث نفس" أو "بوحٌ شخصي" أو ما شابه ذلك من مسميات . وحتى لا أظلم خواطر "أبو عميرة" ولا أكون كاسراً لها .! كان لزاماً علئ أن أقرأها حتى أستطيع قدر جهدي وذائقتي النقدية تصنيف هذا المنتج الذي بين دفتي الغلاف . وما إن تجاوزت المقدمة والإهداء حتى وجدتني أمام نصوص أدبية نثرية رفيعة المستوى فكراً ولغةً وتناولاً أختارت "أبو عميرة" عناوينها بدقة وترتيب يدل على عقلية أدبية منهجية واعية تدرك تماماً ماتصبو إليه وماتتطلع لإنتاجه وتقديمه من خلال رسالة وأفكارٍ باتت مكتملة الأركان في وجدانها وحان وقت مخاضها وقطافها وخروجها إلى النور ونشرها على رؤوس الأشهاد في ستةٍ وعشرين عنواناً هم عدد نصوص المحتوى "الخواطري" .! وحتى لا يأخذني الحديث "الذاتي" عن فحوى تلك الرسالة اخترت لكم نصاً من تلك النصوص بعنوان "التضحية" لنقرأه معاً ونفتح الباب على مصراعيه لكل صاحب ذائقة أدبية ليدلي فيه بدلوه من جميع جوانبه الفنية والأدبية والفكرية ..
***********
التضحية ..
************
في الخريف تتناثر الأوراق ، تسبح هائمة مع الرياح ، تحمل لنا هذا التأكيد بأنه وقت الخريف ، في ذلك الوقت كنت جالسة أمام النافذة أحلم بالربيع ، أحلم بتلك المساحات الخضراء الشاسعة ، وتلك الزهور المتباينة الألوان هنا وهناك ، لكن هل هذا حقيقي ؟ كلا إنه وهم ... فلا يمكن أن يأتي الربيع دون عواصف تسبقه معلنة عنه ، لتخبرنا أن الربيع قادم ، ففي هذه الحياة أمور يجب أن تكون لينتج عنها أشياءً أخرى ، كما أن لكل شيء في هذه الحياة ثمن يجب أن يدفع كي نفوز بحياة أفضل ونتنفس هواءًا أكثر نقاءًا ، تدفع أوراق الخريف الثمن بتضحيتها ليولد ربيع جديد ، وكذلك الشهيد الذي يدفع ثمن الحرية بدمائه ، وكذلك الأم والأب المثال الأكبر للتضحية ، والمناضل من أجل وطنه يضحي أيضاً براحته من أجل إحداث التغيير ، لكن هل نحتفظ في ذاكرتنا بهذا القدر من التقدير لكل من يضحي ؟ تخيل لو أن هذه التضحية لم تعط نتائجها ، فكيف ستكون الأمور ؟ لو أن تضحية أوراق الخريف لم تعطنا ربيعاً مشرقاً مزهراً بعدها فهل ستستوي الأمور ؟ لا أظن ... تستمر الحياة بأسمى معانيها من خلال التضحية ، التي لا يقدرعليها سوى النبلاء، كن أنت من النبلاء حتي وإن لم يتذكر أحد هذا التضحيه، يكفيك أن تعيش الرضا، وأن تكون سبباً في استمرار الحياة أو التغيير رغم القيود ، يكفيك أنك لا تزال نقياً نبيلاً قوياً يمنح الحياة ،فشكراً لك .!
******************
قبل أن نستعرض جماليات النص دعوني أحاول تعريف "الخاطرة" من خلال ذائقتي الأدبية الخاصة وهي "ذلك الهاتف من الشعور والأحاسيس العارضة التي تحلق فوق خيال الإنسان فيهيم معها هياماً "عارضاً" يستغرق وجدانه فترة ما؛ فما يلبث إلا أن يستدعي الورقة والقلم ليعبر بالكلام عن هذا الهاتف المفاجئ بلا مقدمات ولا سابق إنذار وإعداد ولا نية في تصنيف نتاج هذا الكلام المكتوب"
هذا هو تعريفي للخاطرة ولحضراتكم مطلق الحرية في الموافقة عليه أو رفضه بالكلية أو مناقشته بين مايُقْبَلُ منه وما يُرَدُّ عليه .!
ونحن إذا ماعدنا لنصوص "أبو عميرة" رأينا الأمر على خلاف تعريفنا ووجدنا أنفسنا أمام كيان أدبي نثري له بنيته التركيبية النابعة من أسلوب منهجي له بدايته ومدخله وله شرحه وتفاصيله وله خاتمته المحكمة الدالة على غايته وهدفه ورسالته . بداية من عنوانه "التضحية" هذا المفهوم والخُلُقُ الإنسانيُ الراقي المفعم بالعطاء دون انتظار المقابل؛ الممتليء بالإيثار وحب الخير والوجود للآخر؛ دونما تمييز والذي ضربت له "أبو عميرة" مثلاً غاية في الندرة والطرافة والدهشة حينما مثلته بالخريف الذي يتخذه الكثير من الأدباء رمزاً للذبول والانزواء ونهاية الحياة والشيخوخة وإسدال الستار على الجمال . غير أن "أبو عميرة" أبت إلا أن تراه مضحياً بنفسه وحياته ومكانته وبقائه ووجوده حتى يفسح المجال لأخيه في الوجود "الربيع" لأنه لا يستقيم أن يتواجدا معاً في وقت واحد . وان الناموس قضى بأنه لابد أن يموت أحدهما ليعيش الآخر . وفي أريحية ورضا وقناعة بالقضاء . يدفع الخريفُ "حياته" ثمناً ليعيش الربيع ضارباً بذلك نموذجاً أبدياً خالداً في العطاء والتضحية والإيثار . مرئياً ومحسوساً أمام كل من كان له عقل وحس ومشاهدة . تختمه "أبو عميرة" بخلاصة رؤيتها وفلسفتها وحكمتها قائلة "أن لكل شيء في هذه الحياة ثمن يجب أن يدفع لكي تفوز بحياة أفضل" ثم تنتقل بنا من هذا المشهد الوجودي الطبيعي لتضرب لنا ثلاث أمثلة إنسانية أخر في التضحية متمثلة بهم لهذه القيمة الإنسانية المثالية "التضحية" مستدعية أرقى النماذج البشرية لها وهو نموذج الشهيد الذي يضحي بحياته "الخريفية" من أجل أن يحيا وطنه "الربيعي" ونموذج المواطن المناضل "المضحي" بوقته وجهده وعلمه وإخلاصه من أجل رفعة وطنه وتقدمه . ونموذج الأب والأم الباذلين الغالي والنفيس والمضحين "فطرياً" بأعمارهم وأموالهم . من أجل سعادة أبنائهم . ولم تكتف "أبو عميرة" بضرب هذه الأمثلة لبيان قيمة التضحية بل ذهبت لأبعد من هذا في بيانها لتؤكد عليها بطريقة "سلبية" حينما تلفت نظرنا وتحثنا على تصور الأمر إذا ماقُدِّمَت كل تلك التضحيات ولم تؤت ثمارها فكيف سيكون الحال والمآل إذا ماقدم الشهيد حياته فداءًا وتضحية لوطنه وظل وطنه محتلاً وإذا ماقدم الأب والأم تضحياتهما وكانت النتيجة في أولادهما على عكس تلك التضحية وكيف يكون حال الوطن إذا ضحى مواطنوه بجهدهم وعلمهم وحياتهم في سبيله وكان المقابل على عكس ما يرغبون . ثم تختتم "أبو عميرة" نصها بالتأكيد على أن الحياة لا تستمر بأسمى معانيها إلا من خلال تلك القيمة السامية الرفيعة "التضحية" ودعوتها لكل إنسان أن يتحلى بها وأن يبذلها في سبيل إعلاء شأن وطنه ومجتمعه حتى لو بلغ الأمر مبلغه ولم يتذكر أحد تلك التضحية فيكفيه شرفاً وعزة وفخراً أن كان سبباً في استمرار الحياة والارتقاء بها نحو الأفضل والأجمل وذلك قمة النبل والنقاء وذروة سنام التضحية الداعية للشكر والتقدير والامتنان .
هكذا قدمت لنا "أبو عميرة" فكرتها ورؤيتها عن "التضحية" ريثما اختلست من وقتها زمناً جلست فيه أمام شرفتها تتأمل وتحلم بمقدم الربيع . فاستحال ذلك الحلم نصاً نثرياً رائقاً في بلاغته وبيانه رغم كثافته وتركيزه بلا ترهل ولا استطراد ولا إسهاب . ولكنه بلغ حد الامتلاء في حكمته وتأمله الفلسفي النابع من خلاصة التجربة الحياتية المعاشة لكاتبته فجاء نموذجاً لعلم النفس الاجتماعي الدافع بالطاقة الإيجابية للتنمية البشرية المجتمعية . والمترجم بصدق وحنكة أدبية لمعنى "التضحية" . وكأنه خرج من عباءة مصطفى صادق الرافعي الذي دون لنا العديد من شبيه تلك النصوص في كتبه "من وحي القلم" و "المساكين" و "أوراق الورد" ولا سيما إذا كان للقارئ حظه الوافر في قراءة نصوص "نفسي وأنا" كلها والتي جاءت عناوينها لتكشف لنا عن قدرة "أبو عميرة" في ترجمة الكثير من المشاعر والمعاني الإنسانية . بأسلوبها الرشيق في لغته والعميق في معناه وفكرته ومغزاه . كتلك النصوص التي عنونتها في كتابها "الغروب" "الأمل" "الطيبون يرحلون" "الثبات الانفعالي" "الغيرة" "التنمر" "العاطفة ونداء الروح" وغيرها من العناوين لتقدم لنا هذه الوجبة الأدبية الراقية من نصوصها النثرية التي أفرغت فيها عصارة أفكارها وفلسفتها ورؤاها . مما دعانا لإعادة النظر في تصنيف هذه النصوص من الناحية النقدية وهل تعد حقاً في زمرة الخواطر كما نعتتها كاتبتها وحينها وجب علينا نحن النقاد إعادة في هذا المنطوق واعتباره لوناً من ألوان الإبداع النثري يطلق عليه "الخواطر" ونحذفه من قاموس مفرداتنا الدالة على الإقلال من شأن المنتج وأنه دون الشعر والقصة والمقالة الأدبية والصحفية . أم تراني قد أخطأت التقدير النقدي والتذوق الأدبي لتلك النصوص في عنوانها ومضامينها وأفكارها وأسلوب عرضها ..!!؟
شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة