دار نشر القلم للطباعة والنشر والتوزيع دار نشر القلم للطباعة والنشر والتوزيع

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة

والله وضاعتْ لِحانا بقلم علي محمود الشافعي


       مثل شعبي ــ دام عزكم ــ مشهور في الشام ومصر , ولا أدري إن كان مشهورا أو له رديف في دول الخليج والمغرب العربي , المثل يقول : بين حانة ومانة ضيعنا لِحانا , وحكاية المثل تتحدث  عن رجل في الخمسين تزوج امرأة على زوجته ، وكان اسمها حانة ، أمّا زوجته الأولي فكان اسمها مانة. كانت حانة شابّة صغيرة لا تتجاوز العشرين ، بخلاف مانة التي كان عمرها يربو على الخمسين ، وكان الرجل قد لعب الشيب في رأسه ولحيته , فكان كلّما دخل إلى حجرة حانة تنظر إلى لحيته فتقول : أحب أن أراك شابا في ربيع العمر , وانت ما زلت كذلك ، يعزّ علي أن أرى الشيب يشتعل في لحيتك الجميلة , فيسلمها لحيته تنتف منها كلّ شعرة بيضاء , وإذا أوى المسكين إلى حجرة مانة تمسك لحيته هي الأخرى وتنزع منها الشعر الأسود وهي تقول له : يكدّرني أن أرى الشعر الأسود في لحيتك وأنت الرجل الوقور كبير السن جليل القدر , والشيب يا عزيزي وقار , فيسلمها أيضا لحيته , فتنتف الشعر الأسود منها .

        دام الحال على هذا المنوال إلى أن نظر يوماً في المرآة فرأى لحيته وقد نُتف أغلب شعرها وأصبح كصوص منتوف الريش ، فقال قولته الشهيرة : (بين حانة ومانة ضاعت لحانا ) . ومن وقتها صارت مثلاً. يضرب لكل من يترك نفسه للأخرين يتلاعبون به كيف يشاؤون , يوجهونه كما يريدون .
       إلى هنا ــ  دام سعدكم ــ انتهت قصة المثل , أما أنا فلم تنتهِ بعدُ عندي , وإنما لها ما بعدها  تخيلتها على النحو الآتي بعد أن تصلوا على الأمين الهادي  :
      يروى ــ والعهدة على الراوي ــ أن حانة ومانة اتفقتا يوما على ترويض هذا النمر الأشرس المزواج , حتى ولا يعود يفكر في الزواج مرة أخرى , واتخذتا على نفسيهما العهود والمواثيق الغلاظ ألا تخون إحداهما الأخرى , وأن تعملا بجد واجتهاد في سبيل ترويضه , وحددتا ساعة الصفر عند عودته مساء ذلك اليوم .
        عاد الرجل إلى منزله متعبا بعد يوم مثقل بهموم العمل ومشاكله , فألقى بنفسه على أقرب مقعد واجهه .  كانت تلك الليلة هي ليلة ( حانة) فلبست وتغندرت وتبخرت وتعطرت ,  وجلست على الأريكة بجواره وقالت لضرتها : قومي جهزي الطعام لأبي فلان فهو متعب وجائع , ردت عليها مانة : بل قومي أنت فهذه ليلتك وأنت المكلّفة بعمل الطعام له , أما أنا فما حسبت حسابي ولم أطبخ . قالت حانة : وأنا لم أطبخ أيضا , فقد انشغلت بتهيئة نفسي لأستقبل زوجي الغالي , فلا تقع عينه مني على قبيح ,ولا يشم مني إلا أطيب ريح , وتصايحت الضرتان وعلت أصواتهما حتى ضج الرجل وأقسم ألا يأكل وأن يبيت في الصالون , وفعلا قد كان , وذهبت كل منهما وهي تضحك فالخطة بدايتها مبشر بالخير .
        في الصباح الباكر أفاق من نومه فوجد كلا منهما تحمل إناءً من الماء , فظن الرجل للوهلة الأولي أنهما أحسّا بخطئهما بالأمس فأرادتا التكفير عنه , فما كان منه إلا أن غمر يديه في الإناء الأول ليجد نفسه يصيح بلا وعي  : آه ما هذا؟  الماء يغلي . ورفع يديه بعد أن أحس اللحم يكاد يتساقط عن العظم, قالت حانة آسفة حبيبي لم أنتبه , ذلك من سرعتي إليك لتغسل وجهك من إنائي . تقدمت مانة :هذا حبيبي ماء بارد , فغمر يديه بسرعة فيه فاذا هو مثلج , فصاح أيضا وزمجر وتمتم وهدد وتوعد , ثم غادر المنزل  , فرحت المرأتان فالخطة من نجاح الى نجاح .
          في المساء عاد الرجل فوجدهما تنتظران كالعادة , كل تحمل صينية فيها ما لذ وطاب من الطعام والشراب , قال الرجل : والله لقد ظلمت المرأتين وغضبت منهما واسمعتهما كلاما قاسيا , الظاهر لم يكن فعليهما عمدا ,  سأسامحهما وتعود المياه الى مجارها , جلس الرجل والمرأتان حولة تحتفيان به , كل تحسِّن طعامها أمامه ,  تكفيرا عن زلاّتهما بالأمس , ضحك الرجل وسامحهما وتحلّق الجميع  في سرور وانشراح وحبور حول المائدة . 
            مد الرجل يده في الصينية الأولى وثقّلها بوافر الغموس والتقمها  من شدة الجوع  فاستقرت في حلقه , واذا به يصيح ويزمجر ويطلب الماء : هذه مليئة بالفلفل الحار, لقد احترق فمي وحلقي . قالت المعذرة حبيبي ما أشد  جهلي, أحببت ن أكثر من التوابل لأجود بها الطعام , والظاهر أنني أخطأت ولم أفرِّق بين التوابل التي تحب وبين الفلفل , قال الرجل لا بأس ومد يده في طعام الأخرى بلقمة كبيرة ليخفف من حرارة الفلفل فإذا به يصيح : ما بك أنت أيضا ؟ إنه شديد الملوحة , لكنها اعتذرت منه : المعذرة حبيبي ؛ لقد نسيت فملحت الطعام مرة خرى , ولم أتوقعه بهذه الملوحة , سامحني كما سامحت ضرتي , سكت الرجل على مضض وعافت نفسه الطعام كله ، فتمطى على الأريكة وغط في نوم عميق . 
            في الليلة التالية وبعد أن تناول طعامه قالت حانة هيّا حبيبي قم إلى حجرتي , فانت لم تبت عندي أمس ,فهذه ليلتي  , قالت مانة : لا حبيبتي , هذه الليلة ليلتي وحلم حياتي , على رأي طيبة الذكر أم كلثوم , وامسكت كل منهما بإحدى يديه تشدها بقوة , والرجل حائر حتى أُنهِكت يداه , فصاح وزمجر وغضب وهدد وتوعد , ثم أقسم أن يبيت هذه الليلة أيضا في الصالون . فانطلقت كل منهما إلى حجرتها , تتنفس الصعداء إذ مر اليوم بسلام , وما زالتا على ذمته , شارت كل منهما إلى الأخرى وتغامزتا بأن النصر قريب وسياسة الترويض ستأتي أكلها . 
        مضى الأمر على هذا المنوال أياما  , بين مد وجزر والرجل يصبر ويقاوم بالوسائل السلمية , وكل يوم يغضب ويزمجر ويتمتم قليلا ثم يغط في نوم عميق . شيئا فشيئا اخذ يعتاد ذلك وتخف ردة فعله , والمرأتان فرحتان بما وصلتا إليه من ترويض ذلك ال... , إلى أن جاء يوم : عاد من عمله وقت الظهيرة , فوجدهما قد طبختا لهما دجاجة محمرة , فرح الرجل وأقبل عليها بشهية , فتناولت حانة ورك الدجاجة وقالت له : لقد اشتهيته لك حبيبي وبلمح البصر حشرته في فمه حتى وصل بلعومه,  فقامت مانة على الفور وحشرت الورك الآخر في الجهة المقابلة من فمه , فغص بهما وأخذ يسعل حتى كادت روحه تخرج من حلقه, وجحظت عيناه واحمرت وجنتاه وتناثر الطعام على ثيابه . فما كان منه إلا أن قام  فشمر ثيابه , فتسمرت المرأتان من الخوف , ثم انتعل مداسه وقفز يعدو خارج البيت يعدو بكل قوته , لحقت المرأتان به تناديان : ارجع ولك ما تريد , لكنه لم يلتفت إليهما , ولما أحس بهما خلفه خلع نعليه وأطلق ساقيه للريح  حافيا حتى ابتعد , فرجعت المرأتان وقد عادتا بنعليه ليكونا ذكري لآخر عهدهما به .
          خمنت المرأتان أن يعود قبل المساء لكنه لم يعد , قضتا ليلتهما يساورهما القلق والشكوك  هل حصل له مكروه ؟  هل تزوج وكانت هذه مسرحية منه ؟  في الصباح انطلقتا إلى المشافي ثم المخافر لكن دون جدوي . مر يومان ثلاثة عشرة ولا خبر , خاطبتا برنامج خبرني يا طير والجرائد المحلية والعربية ولا خبر أيضا , ندمت المرأتان ولات ساعة مندم , هل ينفع الندم؟ وأخيرا أخذتا بالوقوف على الطرقات يحملان صورة له تتنسمان الاخبار , وتسألان كل مار بهما عن صاحب تلك الصورة . قال بعضهم أنهم شاهدوا رجلا بهذه الملامح في إحدى الحدائق العامة في البرازيل القريبة من الشاطئ بعد أن اجتاز البحر المحيط في هجرة غير شرعية , وآخرون قدموا من الشمال ذكروا أنهم شاهدوه في أكرانيا يقاتل مع الأكران  ضد الروس , وبعضهم قال بل مع الروس ضد الأكران , القادمون من تركيا تحدثوا أنهم شاهدوا رجلا بمثل هذه الملامح  مثل صاحب هذه الصورة  في تركيا يتمشى متنزها على شواطئ بحر إيجة ومرمرة . والقادمون من الشرق يقسمون إنهم شاهدوا هذه الملامح في أفغانستان يقاتل الأمريكان مع طالبان , أو مع الأمريكان ضد طالبان , وتقول إذاعة الهند أنها اعتقلت رجلا هذه ملامحه في كشمير يقاتل مع باكستان , بينما تقول باكستان أنها اعتقلت رجلا هذه ملامحه يقاتل في كشمير مع الهنود ضد باكستان .  عند ذلك قررت المرأتان العودة إلى البيت بانتظار ما تتمخض عنه الأيام. 
       وبعد فإلى هنا ــ ايها السادة الكرام ــ لم تنته الحكاية , وما زلنا بانتظار النهاية , وفهمكم ــ يا دام عزكم ــ كفاية . طابت أوقاتكم.

عن الكاتب

قادح زناد الحروف

التعليقات

طباعة ونشر وتوزيع ، ظهور إعلامي ، ورش أدبية
اشترك بالعدد الجديد من مجلة القلم الورقية للتواصل والاستعلام / 0020102376153 واتساب

اتصل بنا 00201023576153 واتساب

شاركونا الإبداع

جميع الحقوق محفوظة

دار نشر القلم للطباعة والنشر والتوزيع