مثل شعبي ــ دام عزكم ــ مشهور في الشام ومصر , ولا أدري إن كان مشهورا أو له رديف في دول الخليج والمغرب العربي , المثل يقول : بين حانة ومانة ضيعنا لِحانا , وحكاية المثل تتحدث عن رجل في الخمسين تزوج امرأة على زوجته ، وكان اسمها حانة ، أمّا زوجته الأولي فكان اسمها مانة. كانت حانة شابّة صغيرة لا تتجاوز العشرين ، بخلاف مانة التي كان عمرها يربو على الخمسين ، وكان الرجل قد لعب الشيب في رأسه ولحيته , فكان كلّما دخل إلى حجرة حانة تنظر إلى لحيته فتقول : أحب أن أراك شابا في ربيع العمر , وانت ما زلت كذلك ، يعزّ علي أن أرى الشيب يشتعل في لحيتك الجميلة , فيسلمها لحيته تنتف منها كلّ شعرة بيضاء , وإذا أوى المسكين إلى حجرة مانة تمسك لحيته هي الأخرى وتنزع منها الشعر الأسود وهي تقول له : يكدّرني أن أرى الشعر الأسود في لحيتك وأنت الرجل الوقور كبير السن جليل القدر , والشيب يا عزيزي وقار , فيسلمها أيضا لحيته , فتنتف الشعر الأسود منها .
دام الحال على هذا المنوال إلى أن نظر يوماً في المرآة فرأى لحيته وقد نُتف أغلب شعرها وأصبح كصوص منتوف الريش ، فقال قولته الشهيرة : (بين حانة ومانة ضاعت لحانا ) . ومن وقتها صارت مثلاً. يضرب لكل من يترك نفسه للأخرين يتلاعبون به كيف يشاؤون , يوجهونه كما يريدون .
إلى هنا ــ دام سعدكم ــ انتهت قصة المثل , أما أنا فلم تنتهِ بعدُ عندي , وإنما لها ما بعدها تخيلتها على النحو الآتي بعد أن تصلوا على الأمين الهادي :
يروى ــ والعهدة على الراوي ــ أن حانة ومانة اتفقتا يوما على ترويض هذا النمر الأشرس المزواج , حتى ولا يعود يفكر في الزواج مرة أخرى , واتخذتا على نفسيهما العهود والمواثيق الغلاظ ألا تخون إحداهما الأخرى , وأن تعملا بجد واجتهاد في سبيل ترويضه , وحددتا ساعة الصفر عند عودته مساء ذلك اليوم .
عاد الرجل إلى منزله متعبا بعد يوم مثقل بهموم العمل ومشاكله , فألقى بنفسه على أقرب مقعد واجهه . كانت تلك الليلة هي ليلة ( حانة) فلبست وتغندرت وتبخرت وتعطرت , وجلست على الأريكة بجواره وقالت لضرتها : قومي جهزي الطعام لأبي فلان فهو متعب وجائع , ردت عليها مانة : بل قومي أنت فهذه ليلتك وأنت المكلّفة بعمل الطعام له , أما أنا فما حسبت حسابي ولم أطبخ . قالت حانة : وأنا لم أطبخ أيضا , فقد انشغلت بتهيئة نفسي لأستقبل زوجي الغالي , فلا تقع عينه مني على قبيح ,ولا يشم مني إلا أطيب ريح , وتصايحت الضرتان وعلت أصواتهما حتى ضج الرجل وأقسم ألا يأكل وأن يبيت في الصالون , وفعلا قد كان , وذهبت كل منهما وهي تضحك فالخطة بدايتها مبشر بالخير .
في الصباح الباكر أفاق من نومه فوجد كلا منهما تحمل إناءً من الماء , فظن الرجل للوهلة الأولي أنهما أحسّا بخطئهما بالأمس فأرادتا التكفير عنه , فما كان منه إلا أن غمر يديه في الإناء الأول ليجد نفسه يصيح بلا وعي : آه ما هذا؟ الماء يغلي . ورفع يديه بعد أن أحس اللحم يكاد يتساقط عن العظم, قالت حانة آسفة حبيبي لم أنتبه , ذلك من سرعتي إليك لتغسل وجهك من إنائي . تقدمت مانة :هذا حبيبي ماء بارد , فغمر يديه بسرعة فيه فاذا هو مثلج , فصاح أيضا وزمجر وتمتم وهدد وتوعد , ثم غادر المنزل , فرحت المرأتان فالخطة من نجاح الى نجاح .
في المساء عاد الرجل فوجدهما تنتظران كالعادة , كل تحمل صينية فيها ما لذ وطاب من الطعام والشراب , قال الرجل : والله لقد ظلمت المرأتين وغضبت منهما واسمعتهما كلاما قاسيا , الظاهر لم يكن فعليهما عمدا , سأسامحهما وتعود المياه الى مجارها , جلس الرجل والمرأتان حولة تحتفيان به , كل تحسِّن طعامها أمامه , تكفيرا عن زلاّتهما بالأمس , ضحك الرجل وسامحهما وتحلّق الجميع في سرور وانشراح وحبور حول المائدة .
مد الرجل يده في الصينية الأولى وثقّلها بوافر الغموس والتقمها من شدة الجوع فاستقرت في حلقه , واذا به يصيح ويزمجر ويطلب الماء : هذه مليئة بالفلفل الحار, لقد احترق فمي وحلقي . قالت المعذرة حبيبي ما أشد جهلي, أحببت ن أكثر من التوابل لأجود بها الطعام , والظاهر أنني أخطأت ولم أفرِّق بين التوابل التي تحب وبين الفلفل , قال الرجل لا بأس ومد يده في طعام الأخرى بلقمة كبيرة ليخفف من حرارة الفلفل فإذا به يصيح : ما بك أنت أيضا ؟ إنه شديد الملوحة , لكنها اعتذرت منه : المعذرة حبيبي ؛ لقد نسيت فملحت الطعام مرة خرى , ولم أتوقعه بهذه الملوحة , سامحني كما سامحت ضرتي , سكت الرجل على مضض وعافت نفسه الطعام كله ، فتمطى على الأريكة وغط في نوم عميق .
في الليلة التالية وبعد أن تناول طعامه قالت حانة هيّا حبيبي قم إلى حجرتي , فانت لم تبت عندي أمس ,فهذه ليلتي , قالت مانة : لا حبيبتي , هذه الليلة ليلتي وحلم حياتي , على رأي طيبة الذكر أم كلثوم , وامسكت كل منهما بإحدى يديه تشدها بقوة , والرجل حائر حتى أُنهِكت يداه , فصاح وزمجر وغضب وهدد وتوعد , ثم أقسم أن يبيت هذه الليلة أيضا في الصالون . فانطلقت كل منهما إلى حجرتها , تتنفس الصعداء إذ مر اليوم بسلام , وما زالتا على ذمته , شارت كل منهما إلى الأخرى وتغامزتا بأن النصر قريب وسياسة الترويض ستأتي أكلها .
مضى الأمر على هذا المنوال أياما , بين مد وجزر والرجل يصبر ويقاوم بالوسائل السلمية , وكل يوم يغضب ويزمجر ويتمتم قليلا ثم يغط في نوم عميق . شيئا فشيئا اخذ يعتاد ذلك وتخف ردة فعله , والمرأتان فرحتان بما وصلتا إليه من ترويض ذلك ال... , إلى أن جاء يوم : عاد من عمله وقت الظهيرة , فوجدهما قد طبختا لهما دجاجة محمرة , فرح الرجل وأقبل عليها بشهية , فتناولت حانة ورك الدجاجة وقالت له : لقد اشتهيته لك حبيبي وبلمح البصر حشرته في فمه حتى وصل بلعومه, فقامت مانة على الفور وحشرت الورك الآخر في الجهة المقابلة من فمه , فغص بهما وأخذ يسعل حتى كادت روحه تخرج من حلقه, وجحظت عيناه واحمرت وجنتاه وتناثر الطعام على ثيابه . فما كان منه إلا أن قام فشمر ثيابه , فتسمرت المرأتان من الخوف , ثم انتعل مداسه وقفز يعدو خارج البيت يعدو بكل قوته , لحقت المرأتان به تناديان : ارجع ولك ما تريد , لكنه لم يلتفت إليهما , ولما أحس بهما خلفه خلع نعليه وأطلق ساقيه للريح حافيا حتى ابتعد , فرجعت المرأتان وقد عادتا بنعليه ليكونا ذكري لآخر عهدهما به .
خمنت المرأتان أن يعود قبل المساء لكنه لم يعد , قضتا ليلتهما يساورهما القلق والشكوك هل حصل له مكروه ؟ هل تزوج وكانت هذه مسرحية منه ؟ في الصباح انطلقتا إلى المشافي ثم المخافر لكن دون جدوي . مر يومان ثلاثة عشرة ولا خبر , خاطبتا برنامج خبرني يا طير والجرائد المحلية والعربية ولا خبر أيضا , ندمت المرأتان ولات ساعة مندم , هل ينفع الندم؟ وأخيرا أخذتا بالوقوف على الطرقات يحملان صورة له تتنسمان الاخبار , وتسألان كل مار بهما عن صاحب تلك الصورة . قال بعضهم أنهم شاهدوا رجلا بهذه الملامح في إحدى الحدائق العامة في البرازيل القريبة من الشاطئ بعد أن اجتاز البحر المحيط في هجرة غير شرعية , وآخرون قدموا من الشمال ذكروا أنهم شاهدوه في أكرانيا يقاتل مع الأكران ضد الروس , وبعضهم قال بل مع الروس ضد الأكران , القادمون من تركيا تحدثوا أنهم شاهدوا رجلا بمثل هذه الملامح مثل صاحب هذه الصورة في تركيا يتمشى متنزها على شواطئ بحر إيجة ومرمرة . والقادمون من الشرق يقسمون إنهم شاهدوا هذه الملامح في أفغانستان يقاتل الأمريكان مع طالبان , أو مع الأمريكان ضد طالبان , وتقول إذاعة الهند أنها اعتقلت رجلا هذه ملامحه في كشمير يقاتل مع باكستان , بينما تقول باكستان أنها اعتقلت رجلا هذه ملامحه يقاتل في كشمير مع الهنود ضد باكستان . عند ذلك قررت المرأتان العودة إلى البيت بانتظار ما تتمخض عنه الأيام.
وبعد فإلى هنا ــ ايها السادة الكرام ــ لم تنته الحكاية , وما زلنا بانتظار النهاية , وفهمكم ــ يا دام عزكم ــ كفاية . طابت أوقاتكم.
شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة