وأنا أفتش ــ يا دام سعدكم ــ في دفتر الذكريات وقع فكري على رحلة مكوكية , تماما كرحلات طيب الذكر (هنري كيسنجر) والتي يتحدثون عنها كثيرا هذه الأيام في محطات التلفزة , وصاحب مقولة : ما فات مات , في رحلاته المكوكية بين القاهرة وواشنطن وتل أبيب , والتي أسفرت عن توقيع معاهدة السلام بين البلدين , والمكّوك هو مكوك الحايك الذي يحيك البسط وهو كرة لشدّ الخيوط ذهابا وإيابا, ومن هنا أخذ المصطلح الاجتماعي السياسي . وهذا ما حصل مع محدّثكم ذات يوم , رحلات مكوكية تكللت بالنجاح أيضا آخر المطاف . كيف ومتى وأين ولماذا ؟ هذا ما سأحدثكم به , وأنقله بكل شفافية وكما حدث لكن بلغة أدبية , بعد أن تصلوا على سيدي رسول الله :
أما الزمان فالساعة الواحدة والنصف من نهار الثامن عشر من شهر آب عام 1977م , أقلعت بنا الطائرة من مطار ماركا المدني في عمّان باتجاه الشمال نحو مطار أثينا الدولي , طائرة الخطوط الجوية الملكية الأردنية (عالية) بألوانها الزاهية الأحمر والأبيض والذهبي , أذكر كلمة عالية بالخط الكبير على ذيلها بالعربية والإنجليزية , ترى من مسافة بعيدة, فتملأ القلب عزة وشموخا . تجلس إلى جواري صبية متألقة دائمة الابتسامة تبدو عليها السعادة , في ربيع العمر , يشبهها بعض الورد وتشبه البعض الآخر , كانت أول مرة تركب طائرة , حتى إذا ما سلكت الطائرة مدرج المطار وبدأت بالارتفاع مالت عليّ والتصقت بي , وفي وجهها بعض الخوف فربتّ على كتفها, فأحسست أنها اطمأنت , حتى إذا ما استوت الطائرة في الجو عادت الصبية واعتدلت في جلستها , وسرعان ما طلع علينا صوت المذيع الداخلي : مرحبا وذاكرا ببعض التعليمات , بعد ذلك ظهرت المضيعات بلباسهن الأحمر الجميل , والباجة كتب عليها وعلى غطاء الراس كلمة عالية بجوار التاج والعلم الأردني , يقدمن بعض المرطبات .
كانت وجهتنا في الواقع نحو طرابلس الغرب في الجمهورية اللبية , كنت قد تعاقدت مع البعثة التعليمية في العام السابق ,وقد وجّهت إلى مديرية التعليم في منطقة غات أقصى جنوب الغرب الليبي , لم يكن خط طيران مباشر بين الأردن وليبيا في ذلك الوقت , فكان لابد أن نسلك طريق الترانزيت إلى بلد آخر , وقيل لنا : ستمكثون في مطار أثينا ساعتين ثم تغادرون على متن الخطوط الجوية الليبية . كان أغلب ركاب الطائرة من المعلمين بعوائلهم , وأغلبهم أمثالي حديثو الزواج .
وصلت الطائرة , وسرعان ما أتممنا إجراءات الترانزيت وجلسنا على المقاعد ننتظر الطائرة المعهودة , ساعة ساعتان ثلاث أربع , بدا القوم بالتململ , غابت الشمس , جاع الأطفال وقسم منهم تعب وأراد أن ينام , أخيرا طلع المذيع بجلالة قدره ليزف لنا البشرى , فالطائرة لن تقلع اليوم وستقلع عند الثانية عشرة من يوم الغد, ولكن ستقضون الليلة في فندق على نفقة الخطوط الليبية , جهزوا أنفسكم وانطلقوا للبوابة رقم كذا , وفعلا نقلتنا الحافلات إلى فندق جميل على الشاطئ , كان ذلك لأغلبنا ومنهم محدثكم بمثابة يوم عسل .
في الصباح تناولنا الإفطار وعادت بنا الحافلات إلى المطار بانتظار الطائرة العتيدة , ساعة ساعتان وربما أكثر ما عاد الأمر بهمنا, وأخيرا أعلن في الاذاعة الداخلية بوصولها لكنها متجهة إلى بنغازي بدلا من طرابلس , والانطلاق نحو بوابة الخروج , صحيح أنها أفرقت مع بعضنا والمتجهين إلى إقليم فزّان ألف كيلو , لكن الحمد لله أنها وصلت وقرب الفرج .
في ذلك الزمان لم يكن للجماهيرية تأشيرات دخول أو استقدام للعوائل , فقط إثبات من مديرية التعليم التابع لها المعلم , فتتم إجراءات الدخول بكل سهولة ويسر , فكنا من هذه الناحية مطمئنين, فالأوراق معنا ولم يكن يدور في خلدنا أن القوانين في بلاد بني عرب تتغير بين عشية وضحاها , مثل مواقفهم المطاطة , تتغير وتتدل حسب الأهواء . كنا حوالي سبع عشرة أسرة جديدة تستقدم لأول مرة , وصلنا المطار فكانت المفاجأة: لا بد من عودة العوائل على نفس الطائرة , ثم تعمل تأشيرات وترسل للسفارة الليبية , ثمّ تراجع العوائل لطبع التأشيرة على حواز السفر , حسب القانون الجديد , وقعنا في حيرة , فالطائرة ستعود إلى أثينا وليس الأردن , والوقت متأخر والشمس قاربت على المغيب ,حاولنا الاتصال بالوزارة لكن لا مجيب , فالموظفون في بيوتهم ومعهم الوزير , طيب اسمحوا لنا الانتظار إلى الغد ,أبدا , النسوة محجوزات في الطائرة , فما العمل ؟ الطائرة ستقلع بعد قليل , قلت : سأعود مع النسوة , حتى أطمئن على ركوبهن الطائرة الاردنية في أثينا , ثم أعود في الغد إن قدرت لي العودة ,قال لي أحد الزملاء : عائلتي أمانة في عنقك, فأنا لا استطيع العودة, قلت : أبشر بالخير , ثم طلبت من موظف الجوزات الغاء ختم الدخول, وعدنا واستغرقنا يوما بمساعدة القنصل الأردني , فتأمنت لهن العودة, ثم عدت أدراجي إلى بنغازي .
حاولت في اليوم التالي أن أتواصل مع أمانة التعليم دون جدوى , ومع مديرية تعليم بنغازي ولا مجيب , فقط راجع مديريتك , يا ناس مديريتي تبعد من هنا 2700كم , هذا شأنك . مشكلة إذا كنت تتعامل مع موظف لا يريد أن يستمع إليك أو يتعاطف مع مشكلتك , يئست فركبت الطائرة المتجهة إلى سبها عاصمة إقليم الجنوب (فزان), طوال الطريق وأنا أفكر في المسافة المتبقية ,بعد سبها 560كم, منها 360كم صحراء غير معبدة , تقطعها الحافلة في 24 ساعة , ما ذنبنا نحن في هذا الأمر؟ الإجابة على ألسنة الموظفين : الله غالب .
إجراءات طويلة ومقيتة في ذلك الزمن , فالطلب يرفع للجوازات عن طريق المديرية , وعند الموافقة ترسل التأشيرة للسفارة في الأردن , لم يكن في ذلك الوقت هواتف خلوية للتواصل , فترسل برقية للأهل للمتابعة في السفارة , وليس من وسيلة أخرى , والبرقية تنتظر أسبوعا حتى تصل .
وصلت سبها وأخذت انتظر الحافلة المتجهة إلى غات , وأحسب حساب تلك الرحلة المتعبة . التي أحيانا ما تضل الطريق فيخرج حرس الحدود للبحث عنها , لكن المضطر يركب الصعب . هناك طائرة مروحية لكنها تأتي كل أسوع إذا لم تكن متعطلة . أنت وحظك .
في المساء وبينما انا أسير في شارع المدينة الوحيد وبالقرب من ساحة البلدية جاء الفرج ؛ إذ التقيت بزميلي , تصافحنا وأبلغته بما كان وأن العوائل وصلن بسلام , ثم سألته : ماذا فعلت بالتأشيرة؟ قال : اسمع, لقد تعرفت على شاب بالجوازات كنت قد علمت أبناءه , سهل علي الكثير واختصر كافة الاجراءات , سآخذك غدا اليه ونري ما هو فاعل , قلت : الوزارة بحالها ما فعلت شيء وتركتنا ومصيرنا , قال : نجرب لن نخسر شيئا ,قلت : يا مسهل الأمور يا رب.
في الصباح ــ يا دام سعدكم ــ قابلنا الرجل قال : لا بد من تقديم الطلب من مديريتك , فقال له صاحبي : أنت تعرف المسافة والرجل من خاصتي, قال : باهي هل معك إثبات من مديريتك ؟قلت : اللهم نعم وأريته الأوراق , تصدقوا أنه في غضون خمس دقائق كانت التأشيرة قد أنجزت وأرسلت للسفارة في عمّان , وقال :ما عليك الآن إلا إرسال برقية لأهلك لمراجعة السفارة , وختم التأشيرة على الجواز . لا أدري والله كيف انهلت عليهما تقبيلا وامتنانا , أخذني صاحبي بعد ذبك إلى البريد وارسلنا البرقية وأوصينا المرأتين أن ينسقا ويأتيا معا , وبقينا ننتظر في الفندق حتى يأتينا الرد من الأهل.
صاحبي معين في منطقة الشاطئ 200كم شمال مدينة سبها , في قرية تبعد عن مركز الشاطئ 60كم , والطريق كلها غير معبدة , قال لي : سأذهب إلى القرية لبعض شأني يوما أو يومين ولن أتأخر , فالوقت ما زال معنا وانطلق . كان ذلك يوم الأحد , ظهر الاثنين وصلت برقية من الأهل :انهينا الاجراءات وسنصل بنغازي الساعة الرابعة مساء الأربعاء . أسقط والله في يدي , الوقت قصير ولا بد من استقبالهما في المطار , ذهبت لمكاتب الطيران فقيل إن الرحلة مكتملة ولا مكان لك , خطر ببالي أن أذهب لأعلم صاحبي كي نتدبر الامر , وفعلا ركبت سيارة الأجرة إلى الشاطئ , الطريق وعرة وصلنا قبيل الغروب , لكن المفاجأة لم أجد مواصلات من هناك إلى قريته , فاضطررت للعودة أدراجي إلى سبها كي لا يضيع الوقت .
في سبها سألت عن كيفية الوصول إلى بنغازي غير الطيران , قيل لي : هناك الحافلة تغادر عند الثامنة مساء وتصل وجهتها عند الواحدة من ظهر اليوم التالي , لن تلحق بها اليوم فقد غادرت , انتظر للغد , قلت وأنا على اعصابي : لا سبيلالانتظار إلا , وهذه هي الفرصة الأخيرة وسأتشبث بها بأسناني . يعلم الله وحده كيف نمت تلك الليلة , وما الهواجس والافكار التي انتابتني .
يوم الثلاثاء ــ أيها السادة ــ ذهبت مبكرا الى موقف الحافلات , وشرحت لهم الأمر فقالوا : الرحلة مكتملة , لكن انتظر ربما يتخلف احد الركاب فتجلس مكانه , ولكم أن تتخيلوا صعوبة الموقف , لحظات الفرصة الأخيرة تعتمد على الحظ . وصل الركاب ولم يتخلف منهم أحد قلت : هنا طاب الموت , وجلست على الأرضية وقلت: لن أغادرها مهما كلّف الثمن , تعاطف معي السائق وقال : باهي خلاص . قبل الرابعة كنت في المطار في صالة الانتظار , وماهي إلا دقائق حتى وصل الركاب ورايتها , عند ذلك ــ صدقوني ــ نسيت كل ما قاسيت من مرارة وتعب وضغوط نفسية وكرب , وسرعان ما شبكت يدي بيدها , وبنظرة تحد وقهر للصعاب وابتسامة أمل وتيمُّن بغد مشرق جميل . طابت أوقاتكم .
شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة