دار نشر القلم للطباعة والنشر والتوزيع دار نشر القلم للطباعة والنشر والتوزيع

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

شكرا لمروركم لا تنسوا متابعة المدونة ومشاركة نصوصكم على صفحاتكم ومواقع التواصل كافة

حديث الجمعة بقلم علي الشافعي سلطان العلماء وبائع الامراء مقالة التاريخ

     


  الفرق كبير ـــ يا دام عزكم ـــ بين تعبيري : سلطان العلماء وعلماء السلطان ؟ كالفرق بين الذهب الرشادي التركي ( تعرفونه طبعا ) والذهب الروسي المزيف . لتحليل هذه المقولة ــ يا دام سعدكم ـــ لا بد ان ننبش قليلا في المقبرة التي دُفنت فيها كتب تراثنا المجيد , لننفض الغبارعن قامة رفيعة من قامات هذا التاريخ المغيب عن انظار جيل لا يعرف عنه الا بمقدار معرفتي بنسبية أينشتاين . اتحدث عن (سلطان العلماء) , الذي قرّن الامراء في الأصفاد وانزلهم الى سوق النخاسة , فبيعوا هناك ثم ردت اثمانهم لبيت مال المسلمين . من هو هذا الرجل ؟ الرجل ؟ من هو مقرن الامراء في الاصفاد  ؟ لكم  اذن اقول وعمر القارئين والمتبصرين والمتفكرين يطول , فاستمعوا يا رعاكم الله : 

     انه سلطان العلماء وزعيمهم وبائع الملوك والامراء , صاحب الكلمة والمواقف الثابتة الراسخة رسوخ الجبال , رغم كل ما تعرض له من مِحَن , انه العالم الجليل العز بن عبد السلام , او هكذا اشتهر ؛ واسمه الحقيقي ( هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم ) المغربي أصلاً ، الدمشقي مولداً ، ثم المصري داراً . لقب بسلطانَ العلماء وشيخَ الإسلام ، ولقب أيضا بعز الدين ، ولقب ببائع الملوك والأمراء ، وشاع بين الناس الإمام العز بن عبد السلام . فقيهٌ عالمٌ بالحديث والتَّفسير، درَّسَ وأفتى وصنَّف وتولى القضاء . 

       نشأ العزُّ بن عبد السلام في أسرة فقيرة ، وكان هذا من الأسباب التي جعلته يطلب العلم بعد أن أصبح كبيرًا في السن ، وقد أتاح له ذلك - مع اجتهاده في طلب العلم وصبره عليه - أن يتفقه كثيرًا ، وأن يعي ما يحصّله من علم أكثر من غيره . من أهم ملامح شخصية الشيخ (رحمه الله) علمه وفقهه ، فقد تميّز الشيخ وبرع في هذه الناحية كثيرًا حتى لقبّ سلطان العلماء . ومما يشهد بسعة علمه ما تركه للأمة من مؤلفات كثيرة عظيمة القيمة ، عميقة الدقة في مادتها ، والتي ما زال الكثير منها للأسف مخطوطًا ولم يطبع بعدُ  اذكر منها ( تفسير القران  العظيم , مختصر صحيح مسلم , رسالة في علم التوحيد , لغاية في اختصار النهاية, احكام الجهاد وفضائله , الإمام في بيان أدلة الأحكام) . عين رحمه الله قاضيا وفقيها وخطيبا في المسجد الجامع بدمشق , واشتهر بجراته في الحق ، فلا يُذكر العز بن عبد السلام إلا وتُذكر معه الجرأة على كل مخالف لشرع الله ، مهما علا شانه ، وارتفعت بين الناس مكانته . وقد وُصف الشيخ (رحمه الله) أيضًا بالزهد والورع الشديدين ، كما وُصف بالبذل والسخاء والكرم والعطاء ، والعطف على المحتاجين ، مما يجعل من شخصيته (رحمه الله) نموذجًا رائعًا يُقتدى به في كل ميادين الحياة المختلفة.

       حينما تولى الملك (الصالح إسماعيل الأيوبي) أمر دمشق - وهو أخو الملك الصالح  نجم الدين ايوب الذي كان حاكمًا لمصر - , تحالف اسماعيل مع الصليبيين لحرب أخيه نجم الدين ، وكان من شروط تحالفه معهم أن يتنازل لهم عن مدينتي صيدا والشقيف ، وأن يسمح لهم بشراء السلاح من دمشق ، وأن يخرج معهم في جيش واحد لغزو مصر . وبالطبع اثار ذلك العالم الجليل العز بن عبد السلام ، فوقف يخطب على المنابر ينكر بشدة على الصالح إسماعيل ، ويعلن في صراحة ووضوح أن الصالح إسماعيل لا يملك المدن الإسلامية ملكًا شخصيًّا حتى يتنازل عنها للصليبيين ، كما أنه لا يجوز بيع السلاح للصليبيين ، وخاصةً أن المسلمين على يقين أن الصليبيين ما يشترون السلاح إلا لضرب إخوانهم المسلمين . وهكذا قال (سلطان العلماء) كلمة الحق عند السلطان الجائر الصالح إسماعيل ، فما كان من الصالح إسماعيل إلا أن عزله عن منصبه في القضاء ، ومنعه من الخطابة ، ثم أمر باعتقاله وحبسه تحت الاقامة الجبرية في بيته .  فارسل الحاكم يوما بعض من اتباعه الى الشيخ  يداهنه ويعده بالمناصب وغيرها إن ترك ما هو عليه ، ويتوعده إن استمر على ذلك؛ فكان مما قال له: "بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان ، وتقبل يده لا غير"!! فقال الشيخ: "يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً أن أقبـِّل يده ، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في واد ، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به , افعلوا ما بدا لكم".

        مع الايام ضاق الشيخ ذرعا بالإقامة الجبرية , فقرر مغادرة دمشق، فاتجه إلى مصر عن طريق بيت المقدس ، سنة 638هـ . فعينه الملك الصالح نجم الدين  قضاء مصر والافتاء , والخطابة في مساجدها .

          دخل الشيخ يوما على نجم الدين أيوب ( حاكم مصر ) في القلعة يوم العيد وهو في كامل زينته ، وجنوده بين يديه فناداه باسمه المجرد : "يا أيوب : ما حجتك عند الله إذا قال لك : ألم أبوِّئ لك مصر , فتبيح الخمور؟ فقال : هل جرى هذا؟! فرفع الشيخ صوته، وقال: نعم الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات ، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة . فقال: يا سيدي هذا ما عملته أنا ، هذا من زمن أبي! فأجاب الشيخ : أنت اذن من الذين يقولون: {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} . فيأمر السلطان بإبطال الحانات .

         تساءل الناس عن سر هذه الجرأة والشجاعة ، فسئل عن سر ذلك فقال: "استحضرت هيبة الله , فصار السلطان أمامي كالقط  . اما قصة بيع الملوك فشان اخر , تعالوا نسردها لكم حسب ما ورد في الروايات  التاريخية الموثقة  . 

       كان الصالح نجم الدين أيوب طموحاً ، أراد أن يُقوِّيَ جيشَه للوقوف في وجه تحالفات الصليبين وتهديدهم للمحروسة ، فاشترى (من مال الدولة) المماليك (عبيد) الأتراك ، جلبهم من أواسط آسيا وغربها ، ودَرَّبهم على الفروسية والفُتوَّة والقتال ، حتى نالوا ثقته ، فاتسع نفوذهم حتى صاروا أمراءَ الجيش وقادتَه ، وحكّام الاقاليم المصرية وخاصة بعد انتصار الملك الصالح على الصليبيين , وبلغ أحدُهم أن صار نائب السلطان مباشرة ، فلما تولى العز منصب قاضي القضاة ، اكتشف الخلل في الإدارة والسلطة ، وأن القادة الأمراء لا يزالون في حكم الرقيق ,وهم ملك لبيت مال المسلمين ، ولم يَثبُتْ عند الشيخ أنهم أحرار ، وبالتالي فإن الحكمَ الشرعي عدمُ صحة ولايتهم من جهة ، وعدمُ نفوذ تصرفاتهم الخاصة والعامة من جهة أخرى . ومع ذلك ، فإن العز لم يُشهّر بهم ، ولم يرفع راية العصيان المسلح عليهم ، وإنما بلّغهم ذلك أولاً ، وأوقف التعامل معهم ثانياً ، «ولم يصحّح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً ، وتعطلت مصالحهم بذلك ، وكان من جملتهم نائب السلطان» فلما بلغهم ذلك عظم الخطب عليهم ، واضطرب أمرهم ، وثارت ثائرتهم، ولكنهم كبحوا جماح الغضب ، وجاؤوا للعز بالحسنى والمساومة ، واجتمعوا به للاستفسار عن مصيرهم في رأيه ، فصمم على حكم الشرع وأنه يجب بيعهم لصالح بيت المال ، ثم يتم عتقهم ليصبحوا أحراراً ، ثم يتولوا تصريف الأمور، وقال لهم بكل وضوح وصراحة: «نعقد لكم مجلساً ، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين ، ويحصُل عتقكم بطريق شرعي» ، فرفضوا واستكبروا ، رُفعوا الأمر إلى الملك الصالح أيوب ، فاستغرب من كلام الشيخ ورفضه . فلمّا وجد الشيخ أن كلامه لا يُسمع  خلع نفسه من منصبه في القضاء ، وركب الشيخ حماره ليرحل من مصر ، فخرج خلفه الآلافُ من علماء مصر وصالحيها وتجارها ورجالها ، بل وخرجت النساء والصبيان تأييدًا له ، وإنكارًا على مخالفيه . ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح ، فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه ، فقال له الشيخّ : إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلا بد أن يباعوا أولاً ، ثم يعتقهم الذي يشتريهم ، ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع من قبل من بيت مال المسلمين ، فلا بد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين . 

       وافق الملك الصالح أيوب ، فقيد الامراء بالسلاسل وعقد لهم مجلس بيع اشتراهم الملك الصالح واعتقهم  ورد الثمن الى بيت مال المسلمين , ومن يومها والشيخ العز بن عبد السلام يُعرف بـ(بائع الأمراء) . 

   هذه ــ يا سادة ــ قصة سلطان العلماء وبائع الامراء , العالم الفقيه المحدث العز بن عبد السلام الذي قال فيه الملك نجم الين ايوب : ان خطبة للعزّ بن عبد السلام امضي في عزيمة الجند من الف راية . هل عرفتم دام فضلكم الان الفرق بين سلطان العلماء وعلماء السلطان في عصرنا الزاهر , الذين يفصّلون خطبهم وفتاواهم على مقاس من يدفع اكثر . طابت اوقاتكم .


عن الكاتب

قادح زناد الحروف

التعليقات

طباعة ونشر وتوزيع ، ظهور إعلامي ، ورش أدبية
اشترك بالعدد الجديد من مجلة القلم الورقية للتواصل والاستعلام / 0020102376153 واتساب

اتصل بنا 00201023576153 واتساب

شاركونا الإبداع

جميع الحقوق محفوظة

دار نشر القلم للطباعة والنشر والتوزيع